
دقيقة نقاش الأســبوعية - ســقوط النظريات
جريـــدة القــنديــل الاقتصــادية الأســـبوعية :
إعداد د.محمد وائل سعيد حبش
دكتوراه في الأسواق المالية
ســقوط النظريات : انبرى العديد من الاقتصاديين ليقول أن سوق دمشق المالي لا يعبر عن اقتصاد البلد بسبب سيطرة القطاع البنكي و التأميني على معظم حجم التداولات في السوق و بالتالي فإن نظرية أن البورصة هي مرآة الاقتصاد الوطني هي فارغة في المشهد الاقتصادي السوري .
إلا أنني أختلف في نقض الفرضية تماما ً فإني أقول و بكل قناعة أن هذه النظرية مثلت أصدق تمثيل في الحالة السورية الاقتصادية ، فعندما تتكلم عن اقتصاد كلي عاجز عن تحويل الشركات العائلية إلى مساهمة عامة و عاجز عن إصلاح القطاع العام الحكومي و إدخال مفهوم الخصخصة العامة إليه تمهيداً لإدراج القسم المخصخص في السوق المالي و عاجز عن جذب رؤوس الأموال للاستثمار في القطاعات الحيوية فذلك يعني أنه اقتصاد يعاني من خلل بنيوي قد انعكس بشكل مباشر في نوعية الشركات المساهمة المدرجة في السوق و في القيمة الكلية لهذه الشركات بالمقارنة مع الناتج المحلي الوطني .
إن النهج الاقتصادي الذي سمي باقتصاد السوق الاجتماعي قد تم تفسيره بالاقتصاد الذي يدور في فلك القطاع العام فكان اقتصاداً مركزياً بأذرع اقتصادية خاصة و صلاحيات محدودة لم تمهد إلى فكرة الاقتصاد الحر بالمفهوم الحقيقي فبدلاً من أن يكون النهج اقتصاد السوق برعاية حكومية للمجتمع كان اقتصاداً اشتراكياً برعاية دعائية من القطاع الخاص و لعل إيديولوجية حزب البعث في الفكر الاقتصادي الاشتراكي و باعتباره ولفترة قريبة جداً هو الحزب القائد قد شلت تماماً جميع المحاولات لتحويله إلى اقتصاد حر متكيف مع محيطه الاقتصادي الرأسمالي .
ولذلك منذ افتتاح سوق دمشق المالي فشلت الآليات و الأدوات المالية في تحقيق ما هو في الحقيقة غير ممكن الوجود و هو زيادة حجم التداول و زيادة سيولة و عمق السوق في ظل بيئة اقتصادية تجعل النواة عاجزة عن الإثمار و انبرت شركات الوساطة في التنطع بحلول لزيادة حجم التداول معذورة بخلفية الكوادر الإدارية لديها القادمة من بيئات عربية تختلف من حيث التاريخ و المشاكل عن المشهد الاقتصادي السوري العام .
أما الشق الثاني بفرضية السوق المالي مرآة الاقتصاد الوطني على المستوى السعري فإنني كذلك أؤمن أن السوق يتحرك سعرياً بناء على وضع الاقتصاد الكلي فمع اهتزاز الثقة بالليرة السورية و تأثير الأزمة السياسية على النشاط الاقتصادي العام فإن السوق المالي كغيره من الأسواق لا بد أن يتأثر و يهتز و يعبر بمستوى أسعاره عن مستوى الثقة الوطنية و ربما الدولية إن كان هناك بالأصل مستثمرين أجانب في السوق و لذلك فإن السوق المالي لم تسقط فرضيته بالمرآة بالحالة السورية إلا أن شدة قبح المشهد الاقتصادي العام و الذي انعكس بالتفاعلات و التداولات في السوق المالي قد جعل البعض يحاول أن يطمس هذه النظرية في الشأن السوري لنعود إلى فرضية أخرى ساقطة في نظري و هي "الخصوصية السورية " لأن الخصوصية نحن نصنعها كاقتصاديين و كمواطنين عاديين و ليست الحالة العامة هي التي تفرض علينا الشذوذ في الأشكال الاقتصادية فالحالة العامة لجزيرة تايوان و هي جوارها لجمهورية الصين الشيوعية لم يفرض عليها شكلاً اقتصادياً لا ترغبه بل كان الاقتصاد الحر بناء على إرادة النخبة السياسية و الاقتصادية لديها وبالتعاون مع القوى الاقتصادية الحرة فإن كنا نريد أن نتكلم بخصوصية الاقتصاد السوري و كأن هذا الكلام يعني الحصن الحصين لهذا الاقتصاد من أي انتقاد داخلي في آلية عمل الاقتصاد أو خارجي في البنية المشكلة لهذا الاقتصاد فهذا الكلام مرفوض قلباً و قالباً ، و لا يمكن أن نقبل بفكرة الخصوصية إلا إذا كانت تعني أن اقتصاد كل دولة يختلف عن غيره سواء من حيث نوع الموارد أو نوع الثقافة و الرؤيا إلا أن ذلك لا يمنع أن مقومات النجاح متماثلة و متشابهة .
لكنني رغم ذلك لا أخف مخاوفي أننا لم نأخذ من الاقتصاد الحر سوى أخلاق المذاهب الفلسفية التي أسست فكر الاقتصاد الحر و أهمها مذهب المنفعة التفضيلي الذي يختزل الأخلاقيات إلى مستوى اقتصاد السوق الحر حيث يعرف الصالح و الطالح وفق مايريد الناس و يتحول الإنسان إلى وسيلة للوصول إلى غاية ، بدلاً من أن يكون الإنسان هو الغاية و هذه المخاوف ما يبررها في توجهاتنا إلى الاقتصاد الحر لأن ما يسـود لدى العامة أن الاقتصاد الحر هو الشكل الاقتصادي للإنسان الحر و الخير الإجباري ليس خيراً و عليه فالخير المادي الحر هو أسمى أنواع الأخلاقيات الاقتصادية إلا أنه مع تمركز الاقتصاد الحر حول الفرد و سلوكه الاقتصادي قد دفعت المذاهب الفلسفية النفعية إلى فرض وجودها على هذا الشكل الاقتصادي ليتحول الخير إلى مفهوم نسبي حسب رغبات الإنسان الفرد و مصالحه وبالتالي أصبحت الأخلاقيات تجارية ، مما أضعف شعور المواطنة لتسقط القيم الأخلاقية و يزداد الفساد مع الانفتاح الاقتصادي مع غياب دور الدولة في التأكيد على الفلسفة الأخلاقية الواقعية التي تؤمن بالصواب و الخطأ على أنها حقائق دون النظر إلى " الخصوصية " التي تسمح بالتبرير و التجاوز .
و عليه فإن فرضية "مرآة الاقتصاد" تبقى محتفظة بصحتها في سوق دمشق للأوراق المالية فهو لم يكن إلا نتيجة و انعكاس و ليس سبباً في استراتيجية النهج الاقتصادي أما تعليل السببية الاقتصادية في الاقتصاد السوري فهي مهمة الاقتصاديين في اكتشاف العوامل التي سببت النتائج الاقتصادية و إن تجاوز الأحداث الاقتصادية الحالية دون تحليلها و اكتشاف أسبابها سيجعل الأخطاء تتراكم و تتراكب إلى النقطة التي تؤدي إلى الانهيار الاقتصادي الحتمي ومعه الانهيار المجتمعي .