Salam L
27-09-2011, 12:00 AM
في تلك البقعة القصية... في ذاك المكان... وبعيداً عن عيون الحضارة وصخبها... ولدت بطلة قصتنا... عناية... ربما أطلق عليها والداها هذا الاسم راجين من الله تعالى أن يحفظها بعنايته الإلهية.
مرت الأيام في ذلك الأرخبيل الاندونيسي النائي غير آبهةٍ بأوراق الروزنامة... فلا يهم ما هو اليوم... أو الشهر... أو حتى السنة... كان جُلّ ما يهم والدي عناية هو أن يجدا قوت يومهما إلى جانب ابنتهم البكر وإخوتها الخمسة. الغريب في الأمر، أنه وبالرغم من ما حباهُ الله لتلك الأرض من خيرات، إلا أن أهلها كانوا جياعاً حتى مع وجود الماء الغزير والأرض الخصبة. وهنا قد تتساءل عزيزي القارئ عن السبب، هل هو الجهل يا ترى؟ أم سوء التدبير؟ أو لعله الغضب الإلهي!! لم تكن تلك الأسئلة تعني والد عناية بأي حال من الأحوال. فجُلّ اهتمامه كان محصوراً في كيفية سد رمق ثمانية أفواه لثلاث مرات في اليوم.
كان عبد الكريم، والد عناية، أكثر حظاً من أولئك الرجال في محيطه، فهو يمتلك ذهناً متوقداً وإرادة لا تقهر. وإلى جانب تلك الصفات، وضع الله في طريقه رجلاً حكيماً ومتعلماً، قارئاً للقرآن الكريم، عالماً بالعربية وأصولها. وهكذا بدأ عبد الكريم بالانتقال من مقعد الطالب إلى مرتبة المعلم وبدء تلك الرحلة بإعطاء بعض الدروس هنا وهناك. ومع الوقت، وبعد سنوات من العمل المضني، استطاع شراء قطعة أرض صغيرة في مكان قد لا يرقى إلى مستوى قرية. فهو عبارةٌ عن تجمع بشري لا يمتلك أدنى مقومات الحياة المدنية الحديثة. ولكن ذلك لم يثنِ عبد الكريم عن عزمه، فاستمر في إعطاء الدروس. وبعد فترة من الزمان، استطاع عبد الكريم تأمين ثمن 4 جدران وسقف يقيمها فوق أرضه الغالية التي كانت بنظره أغلى ثمناً وأعلى قيمةً من أي أرض أخرى ولو كانت بمساحة ملعب أولمبي في أغلى عواصم العالم. ومرت السنون، وكبرت عناية تحت رعاية أب فقير غير متخاذل، صلبٍ بدون قسوة. ورغم الفقر المدقع، علّم الأب أبناءه الحب والعطف والإيثار.
هاقد اقتربت عناية من سن الثامنة عشرة، وهو سن يعتبر مناسباً للزواج في تلك البيئة. ولكن المشكلة التي بدأت تقلق الوالدين هو قلة الرجال في تلك البقعة الواقعة خارج نطاق التاريخ والزمان. فهذا التجمع البشري، الذي لم يتأثر بالحضارة بمرور الأيام، كان مكاناً يهرب منه الرجال. وربما لو أُعطيت النساء فرصةً للهروب منه فلن تتوانى عن ذلك. أليس غريباً أن البشرية قد وصلت للقمر، وأحصت عدد النجوم في المجرة، ودرست أنواع الغازات المحيطة بكوكب زحل، ولكنها هي البشرية نفسها التي عجزت عن إيصال أبسط مقومات الحياة إلى منزل عناية!!
قد يدعي البعض أن هذه مفارقة أزلية، فمنذ القدم انقسم عالمنا إلى حاكمٍ ومحكوم، غنيٍ وفقير، مثقفٍ وجاهل. ولكن هؤلاء البعض قد يكونون غفلوا عن معلومة بسيطة، ألا وهي أنه في القدم، لم يكن الحاكم أو الغني أو المثقف يتشدق صباح مساء بحقوق الإنسان، والمساعدات الدولية، والرعاية الاجتماعية وكل ما يدور في ذلك الفلك.
كانت عناية تضطر أحيانا إلى ممارسة بعض مهام الرجال، وذلك بسبب انشغال والدها بالتدريس الذي يمكنه من تأمين بعض الطعام بين الفينة والأخرى. حاولت العائلة تحسين وضعها رويداً رويداً ولكن الظروف المحيطة كانت أقوى من أية جهود. كان مجرد الحصول على الأرز مهمة صعبة. فناهيكم عن قلة المال، كان يترتب على عناية الخروج في الثامنة صباحاً لتسلك طريقاً وعراً يوصلها إلى أقرب نقطة للحياة المُتمثلة بالمواصلات العامة. وكانت عملية "الشوبينغ" هذه تستغرق ما يقارب الثماني ساعات تمضي عناية معظمها في الطريق المؤدي إلى أقرب سوق يوفر بعض البضائع البسيطة ثم في العودة بعد ذلك إلى منزلها وهي تحمل ذلك الذهب الأبيض الثمين.
وفي مرة من المرات، وبعد الانتهاء من عملية التسوق الشاقة، وأثناء وقوفها بانتظار تلك المركبة المتهالكة الهجينة بين السيارة والباص، تراءى لها من بعيد رجلٌ لطيف المحيى. وقف الرجل في "موقف الباص" صامتاً. تساءلت عناية، من هو؟، لماذا لم أره من قبل، هل يأتي دائماً إلى هذه البقعة بانتظار المركبة التي تأخذنا إلى اللامكان؟ اختلس الرجل الصامت نظرةً بريئة، ربما دارت في ذهنه الأسئلة ذاتها. ومضت الدقائق الرتيبة الطويلة، ولم تأتي تلك "السيارة العجيبة" التي لا يمكن وصفها ضمن فئةٍ معينة. ففي واقع الأمر، كان أهم ما يُميزها أنها تسير على أربعة دواليب بغض النظر عن ماهية الهيكل الخارجي ومصدره وعدد أبوابه. طغت السكينة على المكان، وها قد بدأت السماء تتخذ لوناً برتقالياً متخليةً عن ردائها الأزرق الساطع، وبدأت حرارة اللون القرمزي لأشعة الشمس بالبرود. "هل تعطلت سفينتنا الفضائية المحلية؟ هل سقطت منها قطعة أو قطعتين على الطريق مما أدى إلى وفاتها بصورة نهائية وانتقالها إلى العالم الآخر؟"، تساءلت عناية.
يتبع.. إذا الله راد!! Big GrinBig Grin
مرت الأيام في ذلك الأرخبيل الاندونيسي النائي غير آبهةٍ بأوراق الروزنامة... فلا يهم ما هو اليوم... أو الشهر... أو حتى السنة... كان جُلّ ما يهم والدي عناية هو أن يجدا قوت يومهما إلى جانب ابنتهم البكر وإخوتها الخمسة. الغريب في الأمر، أنه وبالرغم من ما حباهُ الله لتلك الأرض من خيرات، إلا أن أهلها كانوا جياعاً حتى مع وجود الماء الغزير والأرض الخصبة. وهنا قد تتساءل عزيزي القارئ عن السبب، هل هو الجهل يا ترى؟ أم سوء التدبير؟ أو لعله الغضب الإلهي!! لم تكن تلك الأسئلة تعني والد عناية بأي حال من الأحوال. فجُلّ اهتمامه كان محصوراً في كيفية سد رمق ثمانية أفواه لثلاث مرات في اليوم.
كان عبد الكريم، والد عناية، أكثر حظاً من أولئك الرجال في محيطه، فهو يمتلك ذهناً متوقداً وإرادة لا تقهر. وإلى جانب تلك الصفات، وضع الله في طريقه رجلاً حكيماً ومتعلماً، قارئاً للقرآن الكريم، عالماً بالعربية وأصولها. وهكذا بدأ عبد الكريم بالانتقال من مقعد الطالب إلى مرتبة المعلم وبدء تلك الرحلة بإعطاء بعض الدروس هنا وهناك. ومع الوقت، وبعد سنوات من العمل المضني، استطاع شراء قطعة أرض صغيرة في مكان قد لا يرقى إلى مستوى قرية. فهو عبارةٌ عن تجمع بشري لا يمتلك أدنى مقومات الحياة المدنية الحديثة. ولكن ذلك لم يثنِ عبد الكريم عن عزمه، فاستمر في إعطاء الدروس. وبعد فترة من الزمان، استطاع عبد الكريم تأمين ثمن 4 جدران وسقف يقيمها فوق أرضه الغالية التي كانت بنظره أغلى ثمناً وأعلى قيمةً من أي أرض أخرى ولو كانت بمساحة ملعب أولمبي في أغلى عواصم العالم. ومرت السنون، وكبرت عناية تحت رعاية أب فقير غير متخاذل، صلبٍ بدون قسوة. ورغم الفقر المدقع، علّم الأب أبناءه الحب والعطف والإيثار.
هاقد اقتربت عناية من سن الثامنة عشرة، وهو سن يعتبر مناسباً للزواج في تلك البيئة. ولكن المشكلة التي بدأت تقلق الوالدين هو قلة الرجال في تلك البقعة الواقعة خارج نطاق التاريخ والزمان. فهذا التجمع البشري، الذي لم يتأثر بالحضارة بمرور الأيام، كان مكاناً يهرب منه الرجال. وربما لو أُعطيت النساء فرصةً للهروب منه فلن تتوانى عن ذلك. أليس غريباً أن البشرية قد وصلت للقمر، وأحصت عدد النجوم في المجرة، ودرست أنواع الغازات المحيطة بكوكب زحل، ولكنها هي البشرية نفسها التي عجزت عن إيصال أبسط مقومات الحياة إلى منزل عناية!!
قد يدعي البعض أن هذه مفارقة أزلية، فمنذ القدم انقسم عالمنا إلى حاكمٍ ومحكوم، غنيٍ وفقير، مثقفٍ وجاهل. ولكن هؤلاء البعض قد يكونون غفلوا عن معلومة بسيطة، ألا وهي أنه في القدم، لم يكن الحاكم أو الغني أو المثقف يتشدق صباح مساء بحقوق الإنسان، والمساعدات الدولية، والرعاية الاجتماعية وكل ما يدور في ذلك الفلك.
كانت عناية تضطر أحيانا إلى ممارسة بعض مهام الرجال، وذلك بسبب انشغال والدها بالتدريس الذي يمكنه من تأمين بعض الطعام بين الفينة والأخرى. حاولت العائلة تحسين وضعها رويداً رويداً ولكن الظروف المحيطة كانت أقوى من أية جهود. كان مجرد الحصول على الأرز مهمة صعبة. فناهيكم عن قلة المال، كان يترتب على عناية الخروج في الثامنة صباحاً لتسلك طريقاً وعراً يوصلها إلى أقرب نقطة للحياة المُتمثلة بالمواصلات العامة. وكانت عملية "الشوبينغ" هذه تستغرق ما يقارب الثماني ساعات تمضي عناية معظمها في الطريق المؤدي إلى أقرب سوق يوفر بعض البضائع البسيطة ثم في العودة بعد ذلك إلى منزلها وهي تحمل ذلك الذهب الأبيض الثمين.
وفي مرة من المرات، وبعد الانتهاء من عملية التسوق الشاقة، وأثناء وقوفها بانتظار تلك المركبة المتهالكة الهجينة بين السيارة والباص، تراءى لها من بعيد رجلٌ لطيف المحيى. وقف الرجل في "موقف الباص" صامتاً. تساءلت عناية، من هو؟، لماذا لم أره من قبل، هل يأتي دائماً إلى هذه البقعة بانتظار المركبة التي تأخذنا إلى اللامكان؟ اختلس الرجل الصامت نظرةً بريئة، ربما دارت في ذهنه الأسئلة ذاتها. ومضت الدقائق الرتيبة الطويلة، ولم تأتي تلك "السيارة العجيبة" التي لا يمكن وصفها ضمن فئةٍ معينة. ففي واقع الأمر، كان أهم ما يُميزها أنها تسير على أربعة دواليب بغض النظر عن ماهية الهيكل الخارجي ومصدره وعدد أبوابه. طغت السكينة على المكان، وها قد بدأت السماء تتخذ لوناً برتقالياً متخليةً عن ردائها الأزرق الساطع، وبدأت حرارة اللون القرمزي لأشعة الشمس بالبرود. "هل تعطلت سفينتنا الفضائية المحلية؟ هل سقطت منها قطعة أو قطعتين على الطريق مما أدى إلى وفاتها بصورة نهائية وانتقالها إلى العالم الآخر؟"، تساءلت عناية.
يتبع.. إذا الله راد!! Big GrinBig Grin