arnouri
20-01-2011, 12:32 AM
شام
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ , و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر . . وإنما أظلم دارنا.
و الذين سكنوا دمشق, و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكيّ, و تبدأ سيمفونية الضوء و الظّل و الرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض و علقتهم على قضبان النوافذ.
.و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء..
و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..
القطط الشامِّية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحريّة مطلقة,
و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكفكف دموعها..
و عشرون صحيفة فُلّ في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كلُّ زّر فّلٍ عندها يساوي صبيّاً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها.. بكتْ.. و شكتنا إلى الله..
طفولتي قضيتها تحت (مظلّة الفيْ و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي, كان الصديق, و الواحة, و المشتى, و المصيف..
أستطيع الآن,أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه,وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعدّ بلاطاته واحدةً.. واحدة.. و أسماك بركته واحدةً.. واحدة.. و سلالمه الرخاميّة درجةً.. درجة..
أستطيع أن أغمض عيني, و أستعيد, بعد ثلاثيين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار, و أمامه فنجان قهوته, و منقله, و علبة تبغه, و جريدته..
و على صفحات الجريدة تساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حبّ قادمة من السماء..
هذا البيت- المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة و قرطبة و إشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.
هذه اللغة الشاميّة التي تتغلغل في مفاصل كلماتي, تعلَّمتها في البيت- المظّلة الذي حدثتكم عنه..
و لقد سافرت كثيراً بعد ذلك, و ابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الدبلوماسي نحو عشرين عاماً و تعلمت لغاتٍ كثيرة أخرى,
إلاَّ أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي و حنجرتي, و ثيابي. و ظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته
كلَّ ما في أحواض دمشق, من نعناعٍ, و فلّ, و ورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتُها..حملتُ معي دمشق, ونمت معها على سريرٍ واحد
شكراً
الشاعر السوري نزار قباني
هل تعرفون معنى أن يسكن الإنسان في قارورة عطر؟ بيتنا كان تلك القارورة.
إنني لا أحاول رشوتكم بتشبيه بليغ , و لكن ثقوا أنني بهذا التشبيه لا أظلم قارورة العطر . . وإنما أظلم دارنا.
و الذين سكنوا دمشق, و تغلغلوا في حاراتها و زواريبها الضيقة, يعرفون كيف تفتح لهم الجنة ذراعيها من حيث لا ينتظرون...
بوّابة صغيرة من الخشب تنفتح. و يبدأ الإسراء على الأخضر, و الأحمر, و الليلكيّ, و تبدأ سيمفونية الضوء و الظّل و الرخام.
شجرة النارنج تحتضن ثمارها, و الدالية حامل, و الياسمينة ولدت ألف قمر أبيض و علقتهم على قضبان النوافذ.
.و أسراب السنونو لا تصطاف إلا عندنا..
أسود الرخام حول البركة الوسطى تملأ فمها بالماء..
و تنفخه.. و تستمر اللعبة المائية ليلاً و نهاراً..لا النوافير تتعب.. و لا ماء دمشق ينتهي..
القطط الشامِّية النظيفة الممتلئة صحةً و نضارة تصعد إلى مملكة الشمس لتمارس غزلها ورومانتيكيتها بحريّة مطلقة,
و حين تعود بعد هجر الحبيب و معها قطيع من صغارها ستجد من يستقبلها و يُطعمها و يكفكف دموعها..
و عشرون صحيفة فُلّ في صحن الدار هي كل ثروة أمي.
كلُّ زّر فّلٍ عندها يساوي صبيّاً من أولادها.. لذاك كلما غافلناها و سرقنا ولداً من أولادها.. بكتْ.. و شكتنا إلى الله..
طفولتي قضيتها تحت (مظلّة الفيْ و الرطوبة) التي هي بيتنا العتيق في (مئذنة الشحم).
كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي, كان الصديق, و الواحة, و المشتى, و المصيف..
أستطيع الآن,أن أغمض عيني وأعد مسامير أبوابه,وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته.
أستطيع الآن أن أعدّ بلاطاته واحدةً.. واحدة.. و أسماك بركته واحدةً.. واحدة.. و سلالمه الرخاميّة درجةً.. درجة..
أستطيع أن أغمض عيني, و أستعيد, بعد ثلاثيين سنة مجلسَ أبي في صحن الدار, و أمامه فنجان قهوته, و منقله, و علبة تبغه, و جريدته..
و على صفحات الجريدة تساقط كلّ خمس دقائق زهرة ياسمين بيضاء.. كأنها رسالة حبّ قادمة من السماء..
هذا البيت- المظّلة ترك بصماته واضحة على شعري. تماماً كما تركت غرناطة و قرطبة و إشبيليا بصماتها على الشعر الأندلسي.
هذه اللغة الشاميّة التي تتغلغل في مفاصل كلماتي, تعلَّمتها في البيت- المظّلة الذي حدثتكم عنه..
و لقد سافرت كثيراً بعد ذلك, و ابتعدت عن دمشق موظفاً في السلك الدبلوماسي نحو عشرين عاماً و تعلمت لغاتٍ كثيرة أخرى,
إلاَّ أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي و حنجرتي, و ثيابي. و ظللتُ ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته
كلَّ ما في أحواض دمشق, من نعناعٍ, و فلّ, و ورد بلدي..
إلى كل فنادق العالم التي دخلتُها..حملتُ معي دمشق, ونمت معها على سريرٍ واحد
شكراً
الشاعر السوري نزار قباني