heroaccess
08-01-2011, 04:03 PM
قال الخبير الاقتصادي الإسلامي العالمي الأستاذ الدكتور محمد أنس مصطفى الزرقا أن المديونية المفرطة كانت من أكبر الأسباب للأزمة المالية العالمية الحاضرة، وأنها مفرطة في المستوى الذي بلغته وفي سرعة نموها.
وأكد الزرقا أن تصاعد المديونية الإجمالية للقطاع المالي في أمريكا من 22% من مجمل الناتج المحلي عام 1981 إلى 117% عام 2008 وتصاعدها في بريطانيا لتبلغ 250% من مجمل الناتج المحلي لديها إنما هي مؤشرات على النمو المتسارع في المديونيات.
وأكد الزرقا في بحث قدمه على هامش مؤتمر الأزمة المالية والاقتصادية المعاصرة من منظور إسلامي والتي عقدت في عمان يومي 1-2/12 /2010 بتنظيم من معهد الفكر الإسلامي وجامعة العلوم الإسلامية العالمية بعنوان «المديونية المفرطة سببا.. والتمويل الإسلامي بديلا» إن من بين العوامل التي أدت إلى المديونيات المفرطة هو التطور الاجتماعي، حيث كان السلوك الاجتماعي في القرون السابقة للقرن العشرين يؤكد أن الاستدانة هي أمر استثنائي يدعو للخجل، ويحمل نتائج خطيرة على المدين إن عجز عن الوفاء، ولكن هذه النظرة انتقلت لتصبح مقبولة اجتماعيا وأخلاقيا لامتلاك بيت أو سيارة، ثم تطور الأمر بالتدريج تحت تأثير ثقافة تلبية كل رغبة فورا وقوة الإعلام المشجع على الاقتراض بالبطاقات البلاستيكية. وانتقلت المديونية الدائمة لتصبح نمط حياة مقبول لدى الكثير من الناس.
وتحدث أستاذ الاقتصاد الإسلامي عن أهمية المداينة في الحياة الاقتصادية فقال: «إن الحياة الاقتصادية في صورتها البدائية جداً تتسم بقيام كل وحدة اقتصادية بإنتاج واستهلاك ما تحتاجه، دون مبادلات مع الوحدات الأخرى إلا في حدود ضيقة، وهذا النمط من الحياة الاقتصادية تكون فيه إنتاجية العمل الإنساني، أي مستويات الحياة المعاشية، منخفضة جداً.
وحينما يظهر التخصص في الإنتاج وتقسيم العمل، تقوم كل وحدة إنتاجية، بل كل فرد بإنتاج أكثر من حاجته من سِلعة أو خدمة يتخصص ويبرع فيها، ويبادل الفائض الذي أنتجه مع وحدات تخصصت في سلع وخدمات أخرى، فترتفع إنتاجية العمل الإنساني ومستوى الحياة المعاشية ارتفاعاً كبيراً. لكن التخصص وتقسيم العمل يتطلبان بالضرورة التبادل (المعاوضة) بين الوحدات المختلفة. فالمقايضة هي مبادلة سلعة (أو خدمة) بسلعة، والبيع هو مبادلة سلعة بنقود، والإجارة هي مبادلة منافع سلعة معمرة (كالمنزل) بنقود، وهكذا.
وعليه، فإن تشجيع التبادل وتسهيله هما أساس لا بد منه لرفع مستوى الحياة المعاشية من خلال دعم التخصص والإنتاج وتقسيم العمل.
وفي ضوء ذلك، لنا أنا نسأل: هل للمداينات أهمية في ترويج التبادل الاقتصادي؟ إن الجواب يتضح إذا تأملنا حقيقة المداينة، فالبديل عن المداينة هو: المعاوضة الآنية التي تقوم فيها وحدتان اقتصاديتان بتبادل سلعتين، (أو نقد مقابل سلعة أو خدمة)، ويتم فيها تسليم العوضين في آن واحد. فإذا كان أحد المتبادلين لا يتوافر لديه -حين المبادلة- عوض كاف، فإن المبادلة الآنية لا يمكن أن تتم.
وبعبارة أخرى، إن الاقتصار على المبادلات الآنية يضيق نطاق التبادل الاقتصادي، ويقصره على تلك الصفقات التي تتوافر موارد لها عند كل من طرفي المبادلة في آن واحد.
فإذا أدخلنا الآن في الصورة نظاماً للمداينات، فإن العديد من الصفقات والمبادلات الإضافية يمكن أن يتم بعد أن كان متعذراً، إذ تستطيع الوحدات ذات العجز أن تتمول (أي تحصل على تمويل) من الوحدات ذات الفائض، وهذا يوسع نطاق النشاط الاقتصادي، كما يمثل استخداماً وتشغيلاً لفوائض من الموارد الحقيقية كانت ستبقى معطلة عند مالكيها لو اقتصرنا على نظام اقتصادي تمتنع فيه استدانة تلك الموارد.
وللمداينة فوق ذلك مزية أخرى هي أنها تسمح بتحسين كفاءة استخدام الموارد النقدية في المجتمع. ذلك أن كل وحدة اقتصادية (منتج، مستهلك) تحتاج إلى الاحتفاظ بقدر من النقود «المخزون النقدي» تحسباً للطوارئ ولأسباب أخرى مشهورة. فإذا أصبحت الاستدانة سهلة وشائعة اجتماعياً، فإن الوحدات الاقتصادية ستجد أن بوسعها تخفيض أرصدتها النقدية الاحتياطية عما كانت عليه، تعويلاً منها على إمكان الاستدانة عند الطوارئ، وبذلك تزداد كفاءة استخدام الموارد النقدية في المجتمع.
وأضاف الدكتور الزرقا إن المداينة هي علاقة عقدية تمتد فترة من الزمن، ولا يقدم عليها الدائن ما لم يكن على ثقة من قدرة ورغبة الطرف المستدين في الوفاء. فكل ما يولد الثقة بذلك يدعم نظام المداينات، ويوسع نطاقها، وكل ما يزعزع الثقة في القدرة على الوفاء والرغبة فيه يهدد هذا النظام ويزيد من تكاليفه.
وفي ضوء ذلك تتضح أهمية ما ذكرناه من العقود والقواعد والإطار الأخلاقي والتنظيمي، وهي الأمور التي وفرتها الشريعة لدعم نظام المداينات.
ولقد نوه العز بن عبد السلام ثم الشاطبي من قديم بمبدأ يدل عليه استقراء الواقع، وصرحت به نصوص الشريعة، وهو: أن في كل أمر جهتا نفع وضرر، والعبرة شرعاً للغالب، ويصدق هذا على المداينة التي على أهميتها تنطوي على أضرار جانبية تزداد مع تزايد المداينة، ونلخصها فيما يأتي:
ومن الآثار السلبية على المستوى الجزئي لزيادة المديونية (أي زيادة نسبة الدين إلى حقوق الملكية) هي زيادة خطر الإفلاس وضياع للدائنين في حالات الإخفاق. مع فرصة زيادة معدلات الأرباح في حالات النجاح؛ وعموماً زيادة حدة التقلبات صعوداً وهبوطاً في تيار الإيرادات الصافية.
وعلى المستوى الكلي للاقتصاد، فإن الآثار السلبية الكلية تشبه السلبية الجزئية، فزيادة نسبة المديونية إلى مجمل الدخل تزيد احتمال وقوع التقلبات الاقتصادية كما تزيد حدتها عندما تقع، ويصدق هذا أيضاً على القطاع المصرفي بالذات.
ويؤدي النظام المالي الحاضر كثيراً من وظائفه النافعة والمهمة اقتصادياً بطريقة ضارة هي توليد مديونيات ربوية غير مرتبطة في إنشائها ولا في نموها بالنشاط الإنتاجي الحقيقي المولد للقيمة المضافة.
وإن خطورة المديونية الربوية تكمن في طبيعتها الآلية /السرطانية التي تسمح بالتكاثر بقوتها الذاتية مع مرور الزمن حتى عندما يكون الاقتصاد الحقيقي واقفاً أو متراجعاً.
وإن فك الارتباط بين نمو المديونية ونمو الثروة الحقيقية له نتائج خطيرة على الاستقرار الاقتصادي يتمثل في كثرة الأزمات وشدتها، وبخاصة في حالات ضعف الرقابة العامة على القطاع المالي.
وثمة ملاحظة مهمة جداً نوه بها د. السويلم، وهي أن «نمو المديونية أسهل» بكثير من تنمية الثروة، إذ لا يتطلب أكثر من موافقة الدائن والمدين على إنشاء دين أو إعادة جدولته، بينما لا بد لتنمية الثروة من مهارات ونشاط إنتاجي أو استثماري وتحمل بعض المخاطر (السويلم، 2008).
فإذا سمح النظام المالي بفك الارتباط بين المديونية وتوليد الدخل والثروة، فإن من المتوقع تصاعد المديونية بأسرع من الثروة بكثير (كما في الأرقام السابقة عن الاقتصاد الأمريكي) مما يجعل خدمة الدين عبئاً متزايد الثقل على النشاط الإنتاجي، بينما الوظيفة الاجتماعية الأولى للمداينة (الائتمان) هي خدمة النشاط الإنتاجي، وتسهيل الاستثمار، وتشغيل الموارد البشرية والمادية.
ودعا أنس الزرقاء الأمة إلى الاستفادة من الهداية الإلهية التي تضمنتها الأحكام الشرعية الإسلامية في المعاملات المالية. وبين بإيجاز أهم هذه الأحكام معبراً عنها بخطاب يبين معقوليتها وحكمتها الاقتصادية بما يناسب جمع الناس ولو غير متدينين، وإن كان المتدينون وبخاصة من المسلمين ومن أهل الكتاب سيجدونها معبرة عن قيم يعرفونها في دينهم.
وأضاف الزرقا أن من بين مزايا وحكم المداينة النافعة: دعم الاستقرار الاقتصادي بعدم السماح للمديونية بالنشوء أو النمو إلا إذا ترافقت مع نشاط إنتاجي، مما يحول دون نشوء «أهرامات الدين المنكوسة» التي تستند إلى قاعدة ضئيلة من الأصول الحقيقية، كما كان الحال في الأزمة الحاضرة.
والعدالة والرحمة مع المعسر والعاجز عن السداد، إلى حد إعانته على الوقوف من جديد على قدميه واستئناف نشاط إنتاجي، وما يولده ذلك من التراحم والتضامن بين أفراد المجتمع، وأن الرفق بالمعسر فضلاً عن مبرراته الأخلاقية، له مزية اقتصادية عظيمة في الأزمات المالية.
«فحين تتراجع الأسواق، تهبط عادة قيمة الضمانات التي قدمها المدينون، وفي الأزمات يتفاقم انخفاض تلك القيمة، حيث يسعى الدائنون لحماية مراكزهم (ببيع الضمانات)، ولكن هذا يؤذي الأسواق ذاتها ويحول التراجع إلى انهيار، فإنظار المدينين المعسرين يخفف عنهم ويعطيهم فرصة أفضل للسداد، كما يحفظ قيمة الضمانات ويمنع انهيار الأسواق». (من بيان الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي - بتصرف).
كما أن إسقاط بعض الدين يكون حافزاً قوياً للمدين أن يجتهد في سداد الرصيد، وقد تكون المحصلة أجدى على الدائن من تسييل الضمانات أو استرجاع الأصول التي باعها للمدين.
وإن منع الزيادة على الدين لأي سبب بعد نشوئه يعني منع جدولة الدين، ومع أن هذا أمر لا يرحب به الدائنون، فإن فيه مصلحة اجتماعية مهمة كشفتها الأزمة الحاضرة، وهي أنه يزيل من نفس الدائن أي حافز ضار بمصلحة المدين، من حيث إغراؤه على الاستدانة دون اعتبار لمقدرته الحقيقية على التسديد في الأجل المحدد، وإقراض.
وهذا الحافز الضار لإغراء الناس حتى غير الأملياء بالاستدانة، كان سبباً مهما وثقته وسجلته جميع الدراسات والأخبار عن الأزمة المالية، بل صار العميل المفضل لدى تجار الديون اليوم ليس المستهلك الذي يسدد دينه في موعده، بل الذي لا يسدد حتى يولد دينه في موعده، بل الذي لا يسدد حتى يولد دينه إيراداً دائماً للدائن. ومع سماح القوانين اليوم بجباية فوائد تتراوح بين 17٪ إلى أكثر من 33٪ على قروض البطاقات البلاستيكية، فقد طور تجار الديون حملات تسويقية بارعة، مبنية على دراسات دقيقة لسجلات ائتمان المقترضين لإقناعهم بمزيد من الاقتراض، بل صار مألوفاً أن تصادف شباباً بعيد التخرج مباشرة مدينون بمبالغ ضخمة لا يستطيعون الوفاء بها. مما أوقع ملايين الأسر الأمريكية في فخ الاستدانة الدائمة.
وأكد الزرقا أن تصاعد المديونية الإجمالية للقطاع المالي في أمريكا من 22% من مجمل الناتج المحلي عام 1981 إلى 117% عام 2008 وتصاعدها في بريطانيا لتبلغ 250% من مجمل الناتج المحلي لديها إنما هي مؤشرات على النمو المتسارع في المديونيات.
وأكد الزرقا في بحث قدمه على هامش مؤتمر الأزمة المالية والاقتصادية المعاصرة من منظور إسلامي والتي عقدت في عمان يومي 1-2/12 /2010 بتنظيم من معهد الفكر الإسلامي وجامعة العلوم الإسلامية العالمية بعنوان «المديونية المفرطة سببا.. والتمويل الإسلامي بديلا» إن من بين العوامل التي أدت إلى المديونيات المفرطة هو التطور الاجتماعي، حيث كان السلوك الاجتماعي في القرون السابقة للقرن العشرين يؤكد أن الاستدانة هي أمر استثنائي يدعو للخجل، ويحمل نتائج خطيرة على المدين إن عجز عن الوفاء، ولكن هذه النظرة انتقلت لتصبح مقبولة اجتماعيا وأخلاقيا لامتلاك بيت أو سيارة، ثم تطور الأمر بالتدريج تحت تأثير ثقافة تلبية كل رغبة فورا وقوة الإعلام المشجع على الاقتراض بالبطاقات البلاستيكية. وانتقلت المديونية الدائمة لتصبح نمط حياة مقبول لدى الكثير من الناس.
وتحدث أستاذ الاقتصاد الإسلامي عن أهمية المداينة في الحياة الاقتصادية فقال: «إن الحياة الاقتصادية في صورتها البدائية جداً تتسم بقيام كل وحدة اقتصادية بإنتاج واستهلاك ما تحتاجه، دون مبادلات مع الوحدات الأخرى إلا في حدود ضيقة، وهذا النمط من الحياة الاقتصادية تكون فيه إنتاجية العمل الإنساني، أي مستويات الحياة المعاشية، منخفضة جداً.
وحينما يظهر التخصص في الإنتاج وتقسيم العمل، تقوم كل وحدة إنتاجية، بل كل فرد بإنتاج أكثر من حاجته من سِلعة أو خدمة يتخصص ويبرع فيها، ويبادل الفائض الذي أنتجه مع وحدات تخصصت في سلع وخدمات أخرى، فترتفع إنتاجية العمل الإنساني ومستوى الحياة المعاشية ارتفاعاً كبيراً. لكن التخصص وتقسيم العمل يتطلبان بالضرورة التبادل (المعاوضة) بين الوحدات المختلفة. فالمقايضة هي مبادلة سلعة (أو خدمة) بسلعة، والبيع هو مبادلة سلعة بنقود، والإجارة هي مبادلة منافع سلعة معمرة (كالمنزل) بنقود، وهكذا.
وعليه، فإن تشجيع التبادل وتسهيله هما أساس لا بد منه لرفع مستوى الحياة المعاشية من خلال دعم التخصص والإنتاج وتقسيم العمل.
وفي ضوء ذلك، لنا أنا نسأل: هل للمداينات أهمية في ترويج التبادل الاقتصادي؟ إن الجواب يتضح إذا تأملنا حقيقة المداينة، فالبديل عن المداينة هو: المعاوضة الآنية التي تقوم فيها وحدتان اقتصاديتان بتبادل سلعتين، (أو نقد مقابل سلعة أو خدمة)، ويتم فيها تسليم العوضين في آن واحد. فإذا كان أحد المتبادلين لا يتوافر لديه -حين المبادلة- عوض كاف، فإن المبادلة الآنية لا يمكن أن تتم.
وبعبارة أخرى، إن الاقتصار على المبادلات الآنية يضيق نطاق التبادل الاقتصادي، ويقصره على تلك الصفقات التي تتوافر موارد لها عند كل من طرفي المبادلة في آن واحد.
فإذا أدخلنا الآن في الصورة نظاماً للمداينات، فإن العديد من الصفقات والمبادلات الإضافية يمكن أن يتم بعد أن كان متعذراً، إذ تستطيع الوحدات ذات العجز أن تتمول (أي تحصل على تمويل) من الوحدات ذات الفائض، وهذا يوسع نطاق النشاط الاقتصادي، كما يمثل استخداماً وتشغيلاً لفوائض من الموارد الحقيقية كانت ستبقى معطلة عند مالكيها لو اقتصرنا على نظام اقتصادي تمتنع فيه استدانة تلك الموارد.
وللمداينة فوق ذلك مزية أخرى هي أنها تسمح بتحسين كفاءة استخدام الموارد النقدية في المجتمع. ذلك أن كل وحدة اقتصادية (منتج، مستهلك) تحتاج إلى الاحتفاظ بقدر من النقود «المخزون النقدي» تحسباً للطوارئ ولأسباب أخرى مشهورة. فإذا أصبحت الاستدانة سهلة وشائعة اجتماعياً، فإن الوحدات الاقتصادية ستجد أن بوسعها تخفيض أرصدتها النقدية الاحتياطية عما كانت عليه، تعويلاً منها على إمكان الاستدانة عند الطوارئ، وبذلك تزداد كفاءة استخدام الموارد النقدية في المجتمع.
وأضاف الدكتور الزرقا إن المداينة هي علاقة عقدية تمتد فترة من الزمن، ولا يقدم عليها الدائن ما لم يكن على ثقة من قدرة ورغبة الطرف المستدين في الوفاء. فكل ما يولد الثقة بذلك يدعم نظام المداينات، ويوسع نطاقها، وكل ما يزعزع الثقة في القدرة على الوفاء والرغبة فيه يهدد هذا النظام ويزيد من تكاليفه.
وفي ضوء ذلك تتضح أهمية ما ذكرناه من العقود والقواعد والإطار الأخلاقي والتنظيمي، وهي الأمور التي وفرتها الشريعة لدعم نظام المداينات.
ولقد نوه العز بن عبد السلام ثم الشاطبي من قديم بمبدأ يدل عليه استقراء الواقع، وصرحت به نصوص الشريعة، وهو: أن في كل أمر جهتا نفع وضرر، والعبرة شرعاً للغالب، ويصدق هذا على المداينة التي على أهميتها تنطوي على أضرار جانبية تزداد مع تزايد المداينة، ونلخصها فيما يأتي:
ومن الآثار السلبية على المستوى الجزئي لزيادة المديونية (أي زيادة نسبة الدين إلى حقوق الملكية) هي زيادة خطر الإفلاس وضياع للدائنين في حالات الإخفاق. مع فرصة زيادة معدلات الأرباح في حالات النجاح؛ وعموماً زيادة حدة التقلبات صعوداً وهبوطاً في تيار الإيرادات الصافية.
وعلى المستوى الكلي للاقتصاد، فإن الآثار السلبية الكلية تشبه السلبية الجزئية، فزيادة نسبة المديونية إلى مجمل الدخل تزيد احتمال وقوع التقلبات الاقتصادية كما تزيد حدتها عندما تقع، ويصدق هذا أيضاً على القطاع المصرفي بالذات.
ويؤدي النظام المالي الحاضر كثيراً من وظائفه النافعة والمهمة اقتصادياً بطريقة ضارة هي توليد مديونيات ربوية غير مرتبطة في إنشائها ولا في نموها بالنشاط الإنتاجي الحقيقي المولد للقيمة المضافة.
وإن خطورة المديونية الربوية تكمن في طبيعتها الآلية /السرطانية التي تسمح بالتكاثر بقوتها الذاتية مع مرور الزمن حتى عندما يكون الاقتصاد الحقيقي واقفاً أو متراجعاً.
وإن فك الارتباط بين نمو المديونية ونمو الثروة الحقيقية له نتائج خطيرة على الاستقرار الاقتصادي يتمثل في كثرة الأزمات وشدتها، وبخاصة في حالات ضعف الرقابة العامة على القطاع المالي.
وثمة ملاحظة مهمة جداً نوه بها د. السويلم، وهي أن «نمو المديونية أسهل» بكثير من تنمية الثروة، إذ لا يتطلب أكثر من موافقة الدائن والمدين على إنشاء دين أو إعادة جدولته، بينما لا بد لتنمية الثروة من مهارات ونشاط إنتاجي أو استثماري وتحمل بعض المخاطر (السويلم، 2008).
فإذا سمح النظام المالي بفك الارتباط بين المديونية وتوليد الدخل والثروة، فإن من المتوقع تصاعد المديونية بأسرع من الثروة بكثير (كما في الأرقام السابقة عن الاقتصاد الأمريكي) مما يجعل خدمة الدين عبئاً متزايد الثقل على النشاط الإنتاجي، بينما الوظيفة الاجتماعية الأولى للمداينة (الائتمان) هي خدمة النشاط الإنتاجي، وتسهيل الاستثمار، وتشغيل الموارد البشرية والمادية.
ودعا أنس الزرقاء الأمة إلى الاستفادة من الهداية الإلهية التي تضمنتها الأحكام الشرعية الإسلامية في المعاملات المالية. وبين بإيجاز أهم هذه الأحكام معبراً عنها بخطاب يبين معقوليتها وحكمتها الاقتصادية بما يناسب جمع الناس ولو غير متدينين، وإن كان المتدينون وبخاصة من المسلمين ومن أهل الكتاب سيجدونها معبرة عن قيم يعرفونها في دينهم.
وأضاف الزرقا أن من بين مزايا وحكم المداينة النافعة: دعم الاستقرار الاقتصادي بعدم السماح للمديونية بالنشوء أو النمو إلا إذا ترافقت مع نشاط إنتاجي، مما يحول دون نشوء «أهرامات الدين المنكوسة» التي تستند إلى قاعدة ضئيلة من الأصول الحقيقية، كما كان الحال في الأزمة الحاضرة.
والعدالة والرحمة مع المعسر والعاجز عن السداد، إلى حد إعانته على الوقوف من جديد على قدميه واستئناف نشاط إنتاجي، وما يولده ذلك من التراحم والتضامن بين أفراد المجتمع، وأن الرفق بالمعسر فضلاً عن مبرراته الأخلاقية، له مزية اقتصادية عظيمة في الأزمات المالية.
«فحين تتراجع الأسواق، تهبط عادة قيمة الضمانات التي قدمها المدينون، وفي الأزمات يتفاقم انخفاض تلك القيمة، حيث يسعى الدائنون لحماية مراكزهم (ببيع الضمانات)، ولكن هذا يؤذي الأسواق ذاتها ويحول التراجع إلى انهيار، فإنظار المدينين المعسرين يخفف عنهم ويعطيهم فرصة أفضل للسداد، كما يحفظ قيمة الضمانات ويمنع انهيار الأسواق». (من بيان الجمعية الدولية للاقتصاد الإسلامي - بتصرف).
كما أن إسقاط بعض الدين يكون حافزاً قوياً للمدين أن يجتهد في سداد الرصيد، وقد تكون المحصلة أجدى على الدائن من تسييل الضمانات أو استرجاع الأصول التي باعها للمدين.
وإن منع الزيادة على الدين لأي سبب بعد نشوئه يعني منع جدولة الدين، ومع أن هذا أمر لا يرحب به الدائنون، فإن فيه مصلحة اجتماعية مهمة كشفتها الأزمة الحاضرة، وهي أنه يزيل من نفس الدائن أي حافز ضار بمصلحة المدين، من حيث إغراؤه على الاستدانة دون اعتبار لمقدرته الحقيقية على التسديد في الأجل المحدد، وإقراض.
وهذا الحافز الضار لإغراء الناس حتى غير الأملياء بالاستدانة، كان سبباً مهما وثقته وسجلته جميع الدراسات والأخبار عن الأزمة المالية، بل صار العميل المفضل لدى تجار الديون اليوم ليس المستهلك الذي يسدد دينه في موعده، بل الذي لا يسدد حتى يولد دينه في موعده، بل الذي لا يسدد حتى يولد دينه إيراداً دائماً للدائن. ومع سماح القوانين اليوم بجباية فوائد تتراوح بين 17٪ إلى أكثر من 33٪ على قروض البطاقات البلاستيكية، فقد طور تجار الديون حملات تسويقية بارعة، مبنية على دراسات دقيقة لسجلات ائتمان المقترضين لإقناعهم بمزيد من الاقتراض، بل صار مألوفاً أن تصادف شباباً بعيد التخرج مباشرة مدينون بمبالغ ضخمة لا يستطيعون الوفاء بها. مما أوقع ملايين الأسر الأمريكية في فخ الاستدانة الدائمة.