ابراهيم طاهر
04-11-2012, 10:18 AM
لا انصح العاطفيين بقراءة المقالة (عاش يتيما" وقتل وحيدا" لم ينفعه لا حزبا" ولا رجال الدين)
قصة حقيقية من واقع سورية
عاش يتيما" وقتل وحيدا" لم ينفعه لا حزبا" ولا رجال الدين
محمد طفل ابن الثمان سنوات لا يعرف لماذا خلق ولماذا عاش لقد تركه أبواه بأبغض الحلال إلى الله .
بدأت القصة بحضور شيخ ذو لحية من اجل الوفاق بين الزوجين لكنه اقر بسرعة انه لا حل سوى الطلاق عن طريق مخالعة برضا واتفاق الزوجين , فقال الشيخ للزوجة : ابرئي زوجك فأبرأته وذلك بناء على قول (ص) : ((ردي له حديقته ... )). عندما طلب من الزوجة ذلك فردت الزوج حديقته فطلقاها , وهذا بما معناه التنازل عن المهر والمخالعة الرضائية .
حينها ضحك الشيخ ووضع قبضة يده على لحيته الطويلة وزلقها إلى الأسفل وقال للمجتمعين الطلاق هو ابغض الحلال إلى الله لكنه حلال وأفضل من الشقاق الذي يعيشه الزوجان والذي يؤدي بهما إلى الزنا وزواج كل منهما بأخر مرة ثانية احل من حليب أمهما , انتهت آنذاك قصة أسرة الطفل الوحيد محمد وتفككت وتحللت الرابطة الأبوية وحياته معها أيضا"عند القاضي الشرعي بالقصر العدلي وذلك بتثبت المخالعة الرضائية دون أن يسأل القاضي الشرعي كيف ؟ ولماذا؟ وأين سيعيش الطفل ؟ لان القاضي أمامه آلاف حالات الطلاق وآلاف من الآسر التي ستشرد والتي تريد الدمار على سنة الله ورسوله , فهي عندنا من أسهل المعاملات في القضاء السوري هي والموت أيضا" , وكانت اللقطة الحزينة التي لا ينسها محمد آنذاك هي عندما كانت جدته تجره من يده في زحمة وظلمت القصر العدلي الظالم يوم الطلاق وهو عمره ثمان سنوات ويشعر بنفسه انه بعراضة لا يعرف أين وضعه الله والجدة تحاول مع الأبوين وليرق قلبهما عليه وليعودا من اجله فلعل الأبوين يحنا عليه ويتراجعا عن الطلاق فباءت المحاولة بالفشل, وبعد صدور الحكم القانوني للطلاق انتعش الزوجين بنشوة التحرر من الأسرة وحمدا الله على هذه الميزة التي وهبها الإسلام للمسلمين ولم يهبها لغيرهم والتي حررتهما بسهولة من الرابطة الزوجية وكلوهما املأ" بحياة زوجية جديدة فيها إثارة ولذة ممتعة وبالحلال وتكون على سنة الله ورسوله , بعدها سارع الأب ليكمل نصف دينه مرة ثانية وسارعت الأم بعد العدة لتكمل دينها أيضا" لان الإنسان بدون زواج ناقص دين حتما" كما قال الشرع , هنا وعدت الأم ابنها المتروك عند الجدة بأخ من زوج أخر وذلك بقولها له (لا تحزن يا محمد سأتزوج وآتي لك بأخ جميل قريبا") وهي تظن أنها مفضلة عليه بذلك الوعد , تزوج كل من الأبوين وحققا رغبتهما الشرعية المنشودة وارتعشا نشوة" بحرارة الزوج الجديد وذلك بالتغيير الهرموني وتجديد الدورة الدموية لكل منهما حلا" طيبا", (فذاقت عسيلته وذاق عسيلتها ) كما يقول المتدينين .
فعاش الطفل مع جدته الحنونة الغير متعلمة وكانت تربيه على البخور والجن والعفاريت والغيبيات والبعد عن العلم المادي في تحليل الأمور فهي بسيطة جدا" وهذه إمكانياتها التي تعلمتها من السلف السابق لكنها طيبة وحنونة لا يمكن لأحد أن يلومها مما تسبب في فشل الطفل دراسيا" وبعد أعوام ماتت الجدة الحنونة , كانت تمثل كل مستقبل الطفل وبقي الطفل وحيدا" في المنزل دون رعاية احد لان الأبوين غارقان بالحلال , فكان الجيران يسكبون له بعض الطعام يوميا" خوفا" من الله وحزنا" عليه وتعرض لمحاولات اغتصاب عدة مرات لكنها باءت بالفشل , فكلما ذهب لامه التي أنجبت له أخ كما وعدته كانت تقول له :
(اذهب لعند أبوك فهو مسؤول عنك إن زوجي يغضب عندما يراك ) , وعندما يذهب محمد إلى الأب تطرده خالته زوجة أبيه البدينة ويتهرب الأب منه أيضا", علما" انه جاء له بأخ من الزوجة الثانية أيضا" وهو غير مقصر وهي منية للطفل البسيط الذي لا حول له ولا قوة .
وبعد فترة وجيزة من موت جدته جاء عمومه إلى المنزل يحملون المسابح المعطرة بالمسك والعنبر ويسبحوا الله على نعمه ويلبسون الجلابيات البيضاء ويقولون له : ( لقد بعنا المنزل يابني اذهب لعند أبوك أو أمك الله يصلحهم ما فعلوا بك ) فأعطوه أمتعته بكيس نايلون فخجل الطفل وبكى وهو ضعيف لا حول له ولا قوة , فخسر أخر ذكرى له هو بيت جدته الحنونة وأصبح يذهب لأقرباء أبويه ينام ليلة أو أكثر عند كل منهم بشكل متنقل وغير مستقر , فيقوم الأقرباء بالتكلم مع أمه لتأخذه ويتخلصوا من همه وتتكرر هذه العملية مع أبوه الغارق مع زوجته البيضاء البدينة التي تضع على وجهها كيلوا ماكياج وتزين جسدها مثل كديش طنبرالمازوت المدلل , فذهب الطفل إلى الشيخ الذي مسك لحيته أثناء الطلاق وقال له ما يحصل له من عذاب وتهرب أمه وأباه منه فيقول له الشيخ : (إن النبي (ص) عاش يتيما" اصبر وجاهد بالدنيا هذه إرادة الله عز وجل واعمل وتعلم مهنة ودبر حالك فيها هذا شرع الله , أصلح الله أباك اصبر سيكون لك أجرا" وشأنا" عظيما") ,
فقام الشيخ بتأمين له عمل عند معلم دهان طيب القلب متدين صادق فحن عليه واستأجر له غرفة في دمشق على طريق دمر منطقة الربوة على يمين الطريق من لبن وخشب فكانت قديمة جدا" وسوداء من الداخل فهي حظيرة لخراف سابقا" على سكت القطار وعلى حفة النهر الذي رائحته كريهة تفوح ليلا نهار والبعوض يوزوز في الآذان.
ومرت السنون وجاء به القدر ليعمل في بيت أبو غياث زوج شقيقتي في منطقة قدسيا من اجل طلاء منزله , فأرسله معلمه لوحده كون معلمه لديه عدة ورشات, وكان أبو غياث يكرمه دوما" و يقدم له الطعام وقت الغداء فكانت عيناه تدمع دوما" عندما يأكل الطعام المنزلي الدافئ وسألته شقيقتي لماذا تبكي فقال : ( لم أعيش في حياتي جو الأسرة بعد طلاق أبوي ووفاة جدتي الحنونة رحمها الله ) , فحكي لهما قصته بعد إلحاح منهما وطلب منهما أن ينام في مدخل المنزل إلى حين أن ينتهي من طلائه فوافق أبو غياث وقام بإكرامه جيدا" بعد أن علم بوضعه وأعطاه ملابس وبعض المال فكان يخجل ويحاول التهرب مما يعطياه فكانت كرامته عزيزة عليه جدا" وكان طيب القلب ولطيف الخلق وصاحب نخوة تعلمها من معلمه الطيب , فالحزن بين عينيه دوما" لا يفارقه وهنا كان عمره عشرين عاما" , فلا يسأل عنه احد لا من أهله ولا من شيخ ولا من منظمة إنسانية ولا من لجنة قضائية ولا من حزب ولا من حكومة , فكل ما يكسبه من مال يدفعه أجار للغرفة وشراء بعض الطعام الذي يقيت به جسمه , كان لا يعرف رفيقا", لا يعرف مدرسة من زمن طويل , لا يعرف السهر ولا الراحة ولا السعادة كانت رائحة الدهان أدمنته على هذه المهنة الشاقة , وفي احد الأيام علم أن والده جاء من حج بيت الله الحرام فذهب ليراه , فرحب به الأب ببرادة ولم يعطيه وجها" نهائيا" وطلب منه أن يجلس خارج غرفة الاستقبال لان بعض أعيان الحارة اكبر قدرا" منه فشعر الشاب بالنقص وعاد إلى غرفته الطينية مكسور الجناح وغضب وحزن دون أن يسأل عنه احد وهو يصيح ما ذنبي... ما ذنبي ... ما ذنبي .
وفي احد الأيام اشتاق لامه التي أكرمته وأنجبت له أخا" فعندما وصل إلى منزل زوجها سمع أمام الباب فرقة إنشاد دينية نسائية تنشد وتقول مع التطبيل بالطرق على الدف ( طه يا حبيبي سلام عليك سلام عليك ) فتعقد محمد كأنه في عالم الجن والعفاريت والخيال الذي كانت جدته تقوله له , فطلب رؤية والدته فظهرت أمامه بثوب ابيض مطرز وعليه لحشة تدين ورائحة البخور تخرج من المنزل إلى السماء فطلبت منه أن يذهب لأنها الآن في مولد نبوي ولا يأتي إليها إلا إذا طلبته لان زوجها عسر, فانصدم الشاب وذهب إلى الشيخ مرة أخرى وشكى له كيف يستقبله أبواه كأنه حمل ثقيل على صدريهما , فيقول له الشيخ دوما" : (اصبر سيكون لك شأن عظيم إن الله مع اليتيم وهذه إرادة الله ) , أحيانا تدمع عين الشيخ الذي طبق الشرع على هذا الضعيف منذ طفولته وهو لا حول له ولا قوة , لكنه يتذكر أن النبي (ص) عاش يتيما" فيبعد تأنيب الضمير عنه ويخفف على نفسه الأمر, فهذا الشاب الآن ليس لديه احد وهو يعيش مشرد منذ طفولته , فكلما أعطاه الشيخ بعض المال ليعوضه عن أبويه يرفض الشاب ويذهب مكسور القلب والجناح إلى غرفته الطينية .
وعاش محمد مشردا" في الغرفة السوداء وحيدا" عدة أعوام وفي احد الأيام الباردة الشتوية الماطرة وفي منتصف الليل سقط جزء من السقف الخشبي فوقه وامتلاءت الغرفة ماء" وطينا" وصار يبكي وهو شاب ويلعن حظه وينظر إلى الأسر بهذا الوقت وهي في بيوتها تنعم بالدفء والأمان والراحة التي افتقدها في طفولته وشبابه ويتذكر جدته الحنونة البسيطة التي كانت ضحية المجتمع وتعيش على الخرافة والجهل والغيبيات والجن والبخور فيضحك برهة ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله ويترحم عليها لأنها هي الوحيدة الحنونة عليه فيعود الشاب الطفل ويتذكر مصيبته التي بها الآن فيبكي مرة أخرى ويقول : (أنا تعبان ... أنا تعبان ... والله تعبان ) , ووقف حائرا" ماذا يفعل الآن في منتصف الليل , فجأة تذكر البيت الحنون الذي حن عليه من زمن بعيد , انه بيت الذي أكرم به فهو الفرج في هذه الليلة انه أبو غياث , فضحك كالمجنون ولبس رداءه المبلول بالماء والطين وخرج من الغرفة في ظلام دامس إلى الخارج المطر يهطل بغزارة ولا يوجد أحدا" في الخارج أبدا" والنهر الأسود يفيض ويخر والبرودة تسري إلى عظامه وصعد على جسر خشبي صغير مهترئ يصله ماء النهر وقطعه ووصل إلى الشارع وركب الميكرو باص إلى منطقة قدسيا , وترك الغرفة تغرق بالماء أمام النهر وتغرق أدواته وأمتعته معها وذهب إلى من ساعدوه سابقا" وهو خجول ودق الباب وكانت الساعة واحدة ليلا" وتفاجئا به وروى لهما القصة فحزنا عليه وأطعماه وأدفأه وكان خجلا" جدا" منهما فهو عفيف النفس , فبات تلك الليلة عندهما وفي اليوم التالي قام أبو غياث بمساعدته في ترميم سقف غرفتة بجلب بعض العمال لإعادة بناء السقف الخشبي وكانت أغراضه كلها طين , عاش بتلك الغرفة بعد هذه الحادثة عام فقط وجاء بعدها صاحب الغرفة من اجل إلغاء الإيجار كون الإيجارات ارتفعت أضعاف بسبب اللاجئين العراقيين فكانت الحكومة آنذاك لا تسأل عن شعبها نهائيا" لا أزمة سكن ولا غلاء معيشة ولا هم يحزنون , فدخل لسورية 2.5 مليون عراقي بشكل عشوائي وعلى الهوية بدون دراسة أو تفكير كيف سيتم احتوائهم . فانصدم محمد صدمة كبيرة بفقدانه لمأواه الأخير في سورية وأصبح خارج السرب يغرد بدون مأوى , فصار محمد ينام في فنادق المرجة الجماعية بدمشق مع خمسين شخص من المشردين على الأرض في مكان واحد إما على السطح أو في القبو بمبلغ قدره 50 ليرة للشخص يوميا"ويتنقل من فندق إلى أخر وهي أسوء من إسطبل الحيوانات بعلم وزارة السياحة , قال لي معلمه : انه في احد الأيام أراد أن يأخذه من الفندق صباحا" للعمل باكرا" فمشي فوق خمسين إنسان في سطح الفندق حتى وصل إليه وأيقظه وكانت رائحة الناس تفوح مثل مسلخ الأغنام , هنا تذكرت وعود العطري وهو يضحك بفم مثل المثلث لحل أزمة السكن والغلاء والقضاء ومشكلة العراقيين والتي كانت وعوده كاذبة لم يتحقق منها شيء وذهب ولم يحاسب على هذه الوعود كما ذهب غيره وهذه سورية من أراد أن يعيش بها عاش ومن لم يعجبه بالناقص .
ومضت الأيام والسنين وكان محمد يزور منزل أبو غياث وشقيقتي دوما" ويطلعهما عن أوضاعه ويأخذ منهما إرشادا" وحنانا" فهما أصبحا أهله وكان معلمه يحبه أيضا" ويحن عليه وأصبح عمره 25 عاما" وعاش في الطرقات وهو طيب جدا" وعاطفي وإنسان بمعنى الكلمة فكان متمني من الله أن يجتمع بفتاة ويعيش معها قصة حب ويتزوجها زواجا" مسيحيا" بدون طلاق . فقام معلمه بشراء منزل له بمنطقة المخالفات في ضواحي دمشق بمنطقة عين ترما بمساحته 55 مترا"بثمن 400 ألف ليرة في حارات ضيقة , نصف ثمن هذا المنزل قرض من معلمه والباقي من الناس الخيرين فكانت فرحة الشاب اليتيم لا توصف فهو أول ما استلم المنزل قام بتقبيل جدرانه من الفرح وبدأ يشتري بعض الأثاث القديم والبسيط والرخيص من الأنقاض ووضع الستائر البسيطة المستعملة على النوافذ وكانت فرحته لا تصدق وجاء أبو غياث مع شقيقتي ومعلمه و زوجتة من اجل أن يباركوا له بالمنزل وكان يقول لشقيقتي الآن اشعر أن لدي مأوى انظري إلى الستائر إنها جميلة انظري إلى السرير إلى الخزانة إلى الحصيرة الحمراء فغصت بالبكاء ولم تخرج الدمعة من عينها لكي لا تنغص عليه فرحته وقالت بنفسها : ( أديش محروم هذا الولد الله يكرمه بزوجة حنونة ).
وقالت له شقيقتي : لا ينقصك الآن إلا العروس فضحك بخجل وضحك الجميع معه وكانت هذه اللقطة قبل الأزمة التي تمر بها سورية بشهر .
وبدأت المظاهرات بسوريا من اجل الإصلاح وبعدها تحولت إلى إسقاط النظام برمته وتطورت إلى العنف ومنها إلى المواجهة المسلحة وعمت الفوضى وساد الظلم والقتل العشوائي .
وكان محمد لا يعرف من الدنيا شيء لا ديمقراطية لا حرية لا قضاء عادل فالا يعرف سوى الدهان وتأمين قوة يومه وتأمين مكان يأويه فمجتمعه من رجال دين وحزب وقانون وحكومة حددت له سقف مطالبه وتحكمت أيضا" في مسار حياته منذ نعومة أظافره واختارت له هذه الحياة البسيطة ولم يتشكل عنده مبادئ مثل تشي كيفارا أو محمد الماغوط , أي كان له فم يأكل وليس له فم يحكي وهو المطلوب .
وفي هذه الأثناء كانت منطقة عين ترما في أطراف دمشق تعيش حالة من فقدان الآمان والمظاهرات تعم والمواجهات العنيفة تزداد وقد بدأ سكانها يهجروها وكان إطلاق النار بكل مكان وهدم البيوت مثل رمي حجر الزهر في لعبة الطاولة وكانت المداهمة في كل منطقة وكان القتل والموت والذبح في كل مكان في البيوت في الشوارع وكانت النساء والأطفال تزعق من الخوف في الطرقات خوفا" ورعبا" ولا احد يستطيع إبعاد الموت عنهم وفي تلك الأوقات كان محمد في منزله الذي لم يفرح به بعد , فهو لا يعرف شيء في الحياة سوى انه يريد أن يرتاح من العذاب والعيش في الطرقات , فمعاناته كبيرة منذ طفولته , فكان معلمه يوميا" يتصل به ويطلب منه الرحيل عن هذه المنطقة خوفا" عليه لكن محمد يرفض لان لا مكان له غير هذا البيت و حجته انه لم يؤذي احد ولم يفعل شيء لا للسلطة ولا لأحد وان الأمور ستهدأ وستعود كما كانت فلماذا يخاف , وبعد فترة أصبح البناء البسيط الذي على العظم من الخارج والذي يسكنه أصبح فارغ من سكانه ولم يبقى إلا هو وعندما اشتد العنف والهدم خاف محمد وأراد أن يهرب لكنه فشل كون الطرقات خطرة ومقطوعة وفي احد الليالي المرعبة الذي قضاها كانت المداهمات قد وصلت إلى بيته فتم خلع باب منزله من قبلهم فوقف على الحائط ورفع يداه إلى الأعلى خوفا" منهم وهو شاخص ببصره إلى السقف وهو كطفل شاب بريء فتقدم إليه احدهم دون أن يتكلم معه وقام بطعنه بالحربة , فأول طعنة كانت ببطنه فشعر بألم عظيم و تذكر أمه وأباه اللذان تركا والشيخ الذي زلق يده على ذقنه واجري مخالعة الطلاق وحرمه أسرته وتذكر القصر العدلي الظالم والازدحام والفوضى به أثناء تثبيت المخالعة تذكر خطابات المسؤولين التي كان يسمعها بالتلفاز تذكر أقسام الشرطة الفاسدة التي عانى منها بسبب نومه مشردا" بالشوارع , تذكر الغرفة السوداء من الخشب واللبن على نهر بردى المليئة برائحة النهر الكرية والبعوض الذي يقلقه بالليل , تذكر وحدته القاتلة , تذكر سقف الغرفة الذي سقط عليه أثناء المطر وهو نائم , تذكر الفندق الجماعي الذي أكل من جسده وعقله وعاش فيه طويلا", فاصفر وجه وصرخ أخ ( الأخ الذي وعدته به أمه ) ونزف الدم من فمه وعض على شفته ليس من الم الجسد بل من الم طفولته البائسة وشبابه وبدأ يفقد نور الحياة في عينيه فالبيت الحلم ينعدم بنظره ويفقده تدريجيا" وهو في سكرات الموت وكان مازال واقفا" على الحائط ويداه مازالتا إلى الأعلى مستسلم لقدره وقام القاتل بعدها بسحب الحربة من بطنه وطعنة مرة أخرى في صدره فارتعش محمد من ردت فعل أعصابه بسبب تقطيع شرايين قلبه المظلوم وهذه الطعنة الثانية تذكر فيها جدته الحنونة ومعلمه الطيب وأبو غياث وشقيقتي اللذان أشعراه انه إنسانا" , فتذكر منهم الدفء والأسرة والحنان . بعدها شد يداه إلى الأعلى أكثر فأكثر مستسلما" لأهل بلده الذين قتلوه ظلما" مرتين مرة وقت الطفولة بتشريده ومرة ثانية بشبابه بذبحه وابتسم وفتح عينيه واخترق بصره السقف والجدران وذهب شعاع بصره ليخترق السماوات السبع فضحك فكأنه شاهد مكانته عند الله لعل الله أبدل بيته البائس الموجود بأرض سورية التي ظلمته بقصر في الجنة , فنفخ محمد روحه الطاهرة وسلم روحه لبارئه العظيم انه الله عزل وجل رب العدل والإحسان فهو احن من كل الوجود ومازال محمد مسنود على الحائط ويرفع يداه مستسلما" للقتل وهو يبتسم بلقاء ربه العظيم , فتفاجأ من قتله من ابتسامة محمد لعله ندم هذا القاتل انه قتله , فقال القاتل لزميله : ( لعما ) لماذا يضحك هذا ؟ عجيب لقد مات ! . ثم كرر كلامه وقال : لماذا ظل هذا يضحك بعد موته ؟ لماذا ظل رافعا" يديه إلى السماء ومسنود على الحائط ؟ ولماذا لم يقع ؟ ولم يصدق القاتل متى يخرج من المنزل خوفا" من القتيل المظلوم , فتركوه على وضعه وذهبوا لغيره ليكملوا ما طلب منهم .
وبعد أن هدأت موجة القتل جاء معلمه ليتفقده بعد ست أيام فالتغطية مقطوعة , ووصل معلمه الباب ومازال مفتوحا" فكان الشهيد الطفل الشاب المتشرد المظلوم محمد بنفس الوضعية واقفا" يضحك ويداه مشدودة للأعلى ومسنود على الجدار ومقتولا" بوحشية فصرخ معلمه بالبكاء وبكت عليه الملائكة وكل الناس , وقام معلمه بجلب الموافقات من الجهات المختصة من اجل دفنه وتم لفه ببطانية كما هو مرفوع اليدان ويضحك ودون أن يغسل لأنه شهيد ليكون بكامل شواهد الجريمة يوم القيامة فتم دفنه في بيته الأخير فهو قبر لمعلمه الذي هو باب دخوله للجنة التي ستعوضه عن عذاب الطفولة وحرمان شبابه .
وداعا" يا دنيا العذاب وداع إنني لم أكن سعيدا" بوطني منذ أن خلقت لم يشفع لي احد لا من رجال الدين ولا أمي ولا أبي ولا أقاربي ولا الدولة ولا الحزب ولا القانون ها أنا عشت وحيدا" وغريبا" أعاني منذ طفولتي وها أنا الآن أموت شابا" مقتولا " ومظلوما" محروما" وغريبا" ووحيدا" في وطني ولم افعل شيء سيئ لأحد في حياتي كلها لا لأهلي ولا لديني ولا لوطني , وداعا" يا سكان الأرض إن بعضكم كان معي من الطيبين منهم جدتي ومعلمي والأسرة التي أعطتني الحنان لن أنساكم أبدا" إن أحياني ربي , وداعا" يا وطني يا شعبي لم يكون معظمكم معي إنسانا", إن أراد الله أراكم في يوم الحساب باي.. باي.. باي .
هذا إنسان عاش بعذاب الطفولة والشباب ومات قتلا" بدون ذنب وهو بريء" لم يفعل شيء يعاقب عليه أبدا" بل أساء له اقرب الناس له ولم يرحمه المجتمع فعاش بالتشرد طفلا" ومات شابا" مقتولا بدون ذنب .
والآن في داخل سورية وخارجها يوجد ألاف الأطفال المشردة بسبب تهديم بيوتهم ولا تعرف هذه الأبرياء الآن أين تذهب وماذا تفعل سيكون لكل منهم قصة مثل قصة محمد أو أقسى ولن تنتهي أثار قصصهم بانتهاء الأزمة السورية وتأمين سكن لهم أو مأوى وإعطائهم ألعاب يلهو بها أو إعطاء لكل منهم مليون دولا ر أو تحرير الجولان أو تحرير فلسطين بل ستطال الحياة بسوريا بكافة نواحيها لميآت السنين لتكون سقوطا" في التخلف الطويل وربحا" عظيما" لإسرائيل , فكثيرا" من الأطفال مات إبائهم وأمهاتهم وكثيرا" منهم مصاب الآن بالعجز الجسدي لا بل بالعجز النفسي , فالتشرد الآن موجود في اغلب لمحافظات سورية وهذا سيؤدي إلى تراجع سوريه حضاريا" ميأت السنين أكثر مما هي عليه سابقا" من تخلف , يا أهل المبادئ الدينية والوطنية الأنانية ألا يكفي سوريا تطورا" وهميا" كاذبا" من عشرات السنين ألا يكفي الظلم والنفاق , ألا يكفي فساد في القضاء الذي دمر البنية الاجتماعية والنفسية للسوريين وبعلم الجميع ألا يكفي فسادا" في أقسام الشرطة وفي دوائر الدولة ألا يكفي تسلط أصحاب النفوذ في كل مكان بسوريا وعلى كل شيء ونهب الدولة والشعب , ألا يكفي نفاق من بعض رجال الدين المنتفعين. والله نعيش في كذبة كبيرة – كله كذب .. كله كذب .. كله كذب
رحمك الله يا محمد يا زهرة دمشق ورحم المظلومين في سورية اللهم أنت متكفل بالأيتام فكن عونا"لهم .
نظرة إبراهيم طاهر
قصة حقيقية من واقع سورية
عاش يتيما" وقتل وحيدا" لم ينفعه لا حزبا" ولا رجال الدين
محمد طفل ابن الثمان سنوات لا يعرف لماذا خلق ولماذا عاش لقد تركه أبواه بأبغض الحلال إلى الله .
بدأت القصة بحضور شيخ ذو لحية من اجل الوفاق بين الزوجين لكنه اقر بسرعة انه لا حل سوى الطلاق عن طريق مخالعة برضا واتفاق الزوجين , فقال الشيخ للزوجة : ابرئي زوجك فأبرأته وذلك بناء على قول (ص) : ((ردي له حديقته ... )). عندما طلب من الزوجة ذلك فردت الزوج حديقته فطلقاها , وهذا بما معناه التنازل عن المهر والمخالعة الرضائية .
حينها ضحك الشيخ ووضع قبضة يده على لحيته الطويلة وزلقها إلى الأسفل وقال للمجتمعين الطلاق هو ابغض الحلال إلى الله لكنه حلال وأفضل من الشقاق الذي يعيشه الزوجان والذي يؤدي بهما إلى الزنا وزواج كل منهما بأخر مرة ثانية احل من حليب أمهما , انتهت آنذاك قصة أسرة الطفل الوحيد محمد وتفككت وتحللت الرابطة الأبوية وحياته معها أيضا"عند القاضي الشرعي بالقصر العدلي وذلك بتثبت المخالعة الرضائية دون أن يسأل القاضي الشرعي كيف ؟ ولماذا؟ وأين سيعيش الطفل ؟ لان القاضي أمامه آلاف حالات الطلاق وآلاف من الآسر التي ستشرد والتي تريد الدمار على سنة الله ورسوله , فهي عندنا من أسهل المعاملات في القضاء السوري هي والموت أيضا" , وكانت اللقطة الحزينة التي لا ينسها محمد آنذاك هي عندما كانت جدته تجره من يده في زحمة وظلمت القصر العدلي الظالم يوم الطلاق وهو عمره ثمان سنوات ويشعر بنفسه انه بعراضة لا يعرف أين وضعه الله والجدة تحاول مع الأبوين وليرق قلبهما عليه وليعودا من اجله فلعل الأبوين يحنا عليه ويتراجعا عن الطلاق فباءت المحاولة بالفشل, وبعد صدور الحكم القانوني للطلاق انتعش الزوجين بنشوة التحرر من الأسرة وحمدا الله على هذه الميزة التي وهبها الإسلام للمسلمين ولم يهبها لغيرهم والتي حررتهما بسهولة من الرابطة الزوجية وكلوهما املأ" بحياة زوجية جديدة فيها إثارة ولذة ممتعة وبالحلال وتكون على سنة الله ورسوله , بعدها سارع الأب ليكمل نصف دينه مرة ثانية وسارعت الأم بعد العدة لتكمل دينها أيضا" لان الإنسان بدون زواج ناقص دين حتما" كما قال الشرع , هنا وعدت الأم ابنها المتروك عند الجدة بأخ من زوج أخر وذلك بقولها له (لا تحزن يا محمد سأتزوج وآتي لك بأخ جميل قريبا") وهي تظن أنها مفضلة عليه بذلك الوعد , تزوج كل من الأبوين وحققا رغبتهما الشرعية المنشودة وارتعشا نشوة" بحرارة الزوج الجديد وذلك بالتغيير الهرموني وتجديد الدورة الدموية لكل منهما حلا" طيبا", (فذاقت عسيلته وذاق عسيلتها ) كما يقول المتدينين .
فعاش الطفل مع جدته الحنونة الغير متعلمة وكانت تربيه على البخور والجن والعفاريت والغيبيات والبعد عن العلم المادي في تحليل الأمور فهي بسيطة جدا" وهذه إمكانياتها التي تعلمتها من السلف السابق لكنها طيبة وحنونة لا يمكن لأحد أن يلومها مما تسبب في فشل الطفل دراسيا" وبعد أعوام ماتت الجدة الحنونة , كانت تمثل كل مستقبل الطفل وبقي الطفل وحيدا" في المنزل دون رعاية احد لان الأبوين غارقان بالحلال , فكان الجيران يسكبون له بعض الطعام يوميا" خوفا" من الله وحزنا" عليه وتعرض لمحاولات اغتصاب عدة مرات لكنها باءت بالفشل , فكلما ذهب لامه التي أنجبت له أخ كما وعدته كانت تقول له :
(اذهب لعند أبوك فهو مسؤول عنك إن زوجي يغضب عندما يراك ) , وعندما يذهب محمد إلى الأب تطرده خالته زوجة أبيه البدينة ويتهرب الأب منه أيضا", علما" انه جاء له بأخ من الزوجة الثانية أيضا" وهو غير مقصر وهي منية للطفل البسيط الذي لا حول له ولا قوة .
وبعد فترة وجيزة من موت جدته جاء عمومه إلى المنزل يحملون المسابح المعطرة بالمسك والعنبر ويسبحوا الله على نعمه ويلبسون الجلابيات البيضاء ويقولون له : ( لقد بعنا المنزل يابني اذهب لعند أبوك أو أمك الله يصلحهم ما فعلوا بك ) فأعطوه أمتعته بكيس نايلون فخجل الطفل وبكى وهو ضعيف لا حول له ولا قوة , فخسر أخر ذكرى له هو بيت جدته الحنونة وأصبح يذهب لأقرباء أبويه ينام ليلة أو أكثر عند كل منهم بشكل متنقل وغير مستقر , فيقوم الأقرباء بالتكلم مع أمه لتأخذه ويتخلصوا من همه وتتكرر هذه العملية مع أبوه الغارق مع زوجته البيضاء البدينة التي تضع على وجهها كيلوا ماكياج وتزين جسدها مثل كديش طنبرالمازوت المدلل , فذهب الطفل إلى الشيخ الذي مسك لحيته أثناء الطلاق وقال له ما يحصل له من عذاب وتهرب أمه وأباه منه فيقول له الشيخ : (إن النبي (ص) عاش يتيما" اصبر وجاهد بالدنيا هذه إرادة الله عز وجل واعمل وتعلم مهنة ودبر حالك فيها هذا شرع الله , أصلح الله أباك اصبر سيكون لك أجرا" وشأنا" عظيما") ,
فقام الشيخ بتأمين له عمل عند معلم دهان طيب القلب متدين صادق فحن عليه واستأجر له غرفة في دمشق على طريق دمر منطقة الربوة على يمين الطريق من لبن وخشب فكانت قديمة جدا" وسوداء من الداخل فهي حظيرة لخراف سابقا" على سكت القطار وعلى حفة النهر الذي رائحته كريهة تفوح ليلا نهار والبعوض يوزوز في الآذان.
ومرت السنون وجاء به القدر ليعمل في بيت أبو غياث زوج شقيقتي في منطقة قدسيا من اجل طلاء منزله , فأرسله معلمه لوحده كون معلمه لديه عدة ورشات, وكان أبو غياث يكرمه دوما" و يقدم له الطعام وقت الغداء فكانت عيناه تدمع دوما" عندما يأكل الطعام المنزلي الدافئ وسألته شقيقتي لماذا تبكي فقال : ( لم أعيش في حياتي جو الأسرة بعد طلاق أبوي ووفاة جدتي الحنونة رحمها الله ) , فحكي لهما قصته بعد إلحاح منهما وطلب منهما أن ينام في مدخل المنزل إلى حين أن ينتهي من طلائه فوافق أبو غياث وقام بإكرامه جيدا" بعد أن علم بوضعه وأعطاه ملابس وبعض المال فكان يخجل ويحاول التهرب مما يعطياه فكانت كرامته عزيزة عليه جدا" وكان طيب القلب ولطيف الخلق وصاحب نخوة تعلمها من معلمه الطيب , فالحزن بين عينيه دوما" لا يفارقه وهنا كان عمره عشرين عاما" , فلا يسأل عنه احد لا من أهله ولا من شيخ ولا من منظمة إنسانية ولا من لجنة قضائية ولا من حزب ولا من حكومة , فكل ما يكسبه من مال يدفعه أجار للغرفة وشراء بعض الطعام الذي يقيت به جسمه , كان لا يعرف رفيقا", لا يعرف مدرسة من زمن طويل , لا يعرف السهر ولا الراحة ولا السعادة كانت رائحة الدهان أدمنته على هذه المهنة الشاقة , وفي احد الأيام علم أن والده جاء من حج بيت الله الحرام فذهب ليراه , فرحب به الأب ببرادة ولم يعطيه وجها" نهائيا" وطلب منه أن يجلس خارج غرفة الاستقبال لان بعض أعيان الحارة اكبر قدرا" منه فشعر الشاب بالنقص وعاد إلى غرفته الطينية مكسور الجناح وغضب وحزن دون أن يسأل عنه احد وهو يصيح ما ذنبي... ما ذنبي ... ما ذنبي .
وفي احد الأيام اشتاق لامه التي أكرمته وأنجبت له أخا" فعندما وصل إلى منزل زوجها سمع أمام الباب فرقة إنشاد دينية نسائية تنشد وتقول مع التطبيل بالطرق على الدف ( طه يا حبيبي سلام عليك سلام عليك ) فتعقد محمد كأنه في عالم الجن والعفاريت والخيال الذي كانت جدته تقوله له , فطلب رؤية والدته فظهرت أمامه بثوب ابيض مطرز وعليه لحشة تدين ورائحة البخور تخرج من المنزل إلى السماء فطلبت منه أن يذهب لأنها الآن في مولد نبوي ولا يأتي إليها إلا إذا طلبته لان زوجها عسر, فانصدم الشاب وذهب إلى الشيخ مرة أخرى وشكى له كيف يستقبله أبواه كأنه حمل ثقيل على صدريهما , فيقول له الشيخ دوما" : (اصبر سيكون لك شأن عظيم إن الله مع اليتيم وهذه إرادة الله ) , أحيانا تدمع عين الشيخ الذي طبق الشرع على هذا الضعيف منذ طفولته وهو لا حول له ولا قوة , لكنه يتذكر أن النبي (ص) عاش يتيما" فيبعد تأنيب الضمير عنه ويخفف على نفسه الأمر, فهذا الشاب الآن ليس لديه احد وهو يعيش مشرد منذ طفولته , فكلما أعطاه الشيخ بعض المال ليعوضه عن أبويه يرفض الشاب ويذهب مكسور القلب والجناح إلى غرفته الطينية .
وعاش محمد مشردا" في الغرفة السوداء وحيدا" عدة أعوام وفي احد الأيام الباردة الشتوية الماطرة وفي منتصف الليل سقط جزء من السقف الخشبي فوقه وامتلاءت الغرفة ماء" وطينا" وصار يبكي وهو شاب ويلعن حظه وينظر إلى الأسر بهذا الوقت وهي في بيوتها تنعم بالدفء والأمان والراحة التي افتقدها في طفولته وشبابه ويتذكر جدته الحنونة البسيطة التي كانت ضحية المجتمع وتعيش على الخرافة والجهل والغيبيات والجن والبخور فيضحك برهة ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله ويترحم عليها لأنها هي الوحيدة الحنونة عليه فيعود الشاب الطفل ويتذكر مصيبته التي بها الآن فيبكي مرة أخرى ويقول : (أنا تعبان ... أنا تعبان ... والله تعبان ) , ووقف حائرا" ماذا يفعل الآن في منتصف الليل , فجأة تذكر البيت الحنون الذي حن عليه من زمن بعيد , انه بيت الذي أكرم به فهو الفرج في هذه الليلة انه أبو غياث , فضحك كالمجنون ولبس رداءه المبلول بالماء والطين وخرج من الغرفة في ظلام دامس إلى الخارج المطر يهطل بغزارة ولا يوجد أحدا" في الخارج أبدا" والنهر الأسود يفيض ويخر والبرودة تسري إلى عظامه وصعد على جسر خشبي صغير مهترئ يصله ماء النهر وقطعه ووصل إلى الشارع وركب الميكرو باص إلى منطقة قدسيا , وترك الغرفة تغرق بالماء أمام النهر وتغرق أدواته وأمتعته معها وذهب إلى من ساعدوه سابقا" وهو خجول ودق الباب وكانت الساعة واحدة ليلا" وتفاجئا به وروى لهما القصة فحزنا عليه وأطعماه وأدفأه وكان خجلا" جدا" منهما فهو عفيف النفس , فبات تلك الليلة عندهما وفي اليوم التالي قام أبو غياث بمساعدته في ترميم سقف غرفتة بجلب بعض العمال لإعادة بناء السقف الخشبي وكانت أغراضه كلها طين , عاش بتلك الغرفة بعد هذه الحادثة عام فقط وجاء بعدها صاحب الغرفة من اجل إلغاء الإيجار كون الإيجارات ارتفعت أضعاف بسبب اللاجئين العراقيين فكانت الحكومة آنذاك لا تسأل عن شعبها نهائيا" لا أزمة سكن ولا غلاء معيشة ولا هم يحزنون , فدخل لسورية 2.5 مليون عراقي بشكل عشوائي وعلى الهوية بدون دراسة أو تفكير كيف سيتم احتوائهم . فانصدم محمد صدمة كبيرة بفقدانه لمأواه الأخير في سورية وأصبح خارج السرب يغرد بدون مأوى , فصار محمد ينام في فنادق المرجة الجماعية بدمشق مع خمسين شخص من المشردين على الأرض في مكان واحد إما على السطح أو في القبو بمبلغ قدره 50 ليرة للشخص يوميا"ويتنقل من فندق إلى أخر وهي أسوء من إسطبل الحيوانات بعلم وزارة السياحة , قال لي معلمه : انه في احد الأيام أراد أن يأخذه من الفندق صباحا" للعمل باكرا" فمشي فوق خمسين إنسان في سطح الفندق حتى وصل إليه وأيقظه وكانت رائحة الناس تفوح مثل مسلخ الأغنام , هنا تذكرت وعود العطري وهو يضحك بفم مثل المثلث لحل أزمة السكن والغلاء والقضاء ومشكلة العراقيين والتي كانت وعوده كاذبة لم يتحقق منها شيء وذهب ولم يحاسب على هذه الوعود كما ذهب غيره وهذه سورية من أراد أن يعيش بها عاش ومن لم يعجبه بالناقص .
ومضت الأيام والسنين وكان محمد يزور منزل أبو غياث وشقيقتي دوما" ويطلعهما عن أوضاعه ويأخذ منهما إرشادا" وحنانا" فهما أصبحا أهله وكان معلمه يحبه أيضا" ويحن عليه وأصبح عمره 25 عاما" وعاش في الطرقات وهو طيب جدا" وعاطفي وإنسان بمعنى الكلمة فكان متمني من الله أن يجتمع بفتاة ويعيش معها قصة حب ويتزوجها زواجا" مسيحيا" بدون طلاق . فقام معلمه بشراء منزل له بمنطقة المخالفات في ضواحي دمشق بمنطقة عين ترما بمساحته 55 مترا"بثمن 400 ألف ليرة في حارات ضيقة , نصف ثمن هذا المنزل قرض من معلمه والباقي من الناس الخيرين فكانت فرحة الشاب اليتيم لا توصف فهو أول ما استلم المنزل قام بتقبيل جدرانه من الفرح وبدأ يشتري بعض الأثاث القديم والبسيط والرخيص من الأنقاض ووضع الستائر البسيطة المستعملة على النوافذ وكانت فرحته لا تصدق وجاء أبو غياث مع شقيقتي ومعلمه و زوجتة من اجل أن يباركوا له بالمنزل وكان يقول لشقيقتي الآن اشعر أن لدي مأوى انظري إلى الستائر إنها جميلة انظري إلى السرير إلى الخزانة إلى الحصيرة الحمراء فغصت بالبكاء ولم تخرج الدمعة من عينها لكي لا تنغص عليه فرحته وقالت بنفسها : ( أديش محروم هذا الولد الله يكرمه بزوجة حنونة ).
وقالت له شقيقتي : لا ينقصك الآن إلا العروس فضحك بخجل وضحك الجميع معه وكانت هذه اللقطة قبل الأزمة التي تمر بها سورية بشهر .
وبدأت المظاهرات بسوريا من اجل الإصلاح وبعدها تحولت إلى إسقاط النظام برمته وتطورت إلى العنف ومنها إلى المواجهة المسلحة وعمت الفوضى وساد الظلم والقتل العشوائي .
وكان محمد لا يعرف من الدنيا شيء لا ديمقراطية لا حرية لا قضاء عادل فالا يعرف سوى الدهان وتأمين قوة يومه وتأمين مكان يأويه فمجتمعه من رجال دين وحزب وقانون وحكومة حددت له سقف مطالبه وتحكمت أيضا" في مسار حياته منذ نعومة أظافره واختارت له هذه الحياة البسيطة ولم يتشكل عنده مبادئ مثل تشي كيفارا أو محمد الماغوط , أي كان له فم يأكل وليس له فم يحكي وهو المطلوب .
وفي هذه الأثناء كانت منطقة عين ترما في أطراف دمشق تعيش حالة من فقدان الآمان والمظاهرات تعم والمواجهات العنيفة تزداد وقد بدأ سكانها يهجروها وكان إطلاق النار بكل مكان وهدم البيوت مثل رمي حجر الزهر في لعبة الطاولة وكانت المداهمة في كل منطقة وكان القتل والموت والذبح في كل مكان في البيوت في الشوارع وكانت النساء والأطفال تزعق من الخوف في الطرقات خوفا" ورعبا" ولا احد يستطيع إبعاد الموت عنهم وفي تلك الأوقات كان محمد في منزله الذي لم يفرح به بعد , فهو لا يعرف شيء في الحياة سوى انه يريد أن يرتاح من العذاب والعيش في الطرقات , فمعاناته كبيرة منذ طفولته , فكان معلمه يوميا" يتصل به ويطلب منه الرحيل عن هذه المنطقة خوفا" عليه لكن محمد يرفض لان لا مكان له غير هذا البيت و حجته انه لم يؤذي احد ولم يفعل شيء لا للسلطة ولا لأحد وان الأمور ستهدأ وستعود كما كانت فلماذا يخاف , وبعد فترة أصبح البناء البسيط الذي على العظم من الخارج والذي يسكنه أصبح فارغ من سكانه ولم يبقى إلا هو وعندما اشتد العنف والهدم خاف محمد وأراد أن يهرب لكنه فشل كون الطرقات خطرة ومقطوعة وفي احد الليالي المرعبة الذي قضاها كانت المداهمات قد وصلت إلى بيته فتم خلع باب منزله من قبلهم فوقف على الحائط ورفع يداه إلى الأعلى خوفا" منهم وهو شاخص ببصره إلى السقف وهو كطفل شاب بريء فتقدم إليه احدهم دون أن يتكلم معه وقام بطعنه بالحربة , فأول طعنة كانت ببطنه فشعر بألم عظيم و تذكر أمه وأباه اللذان تركا والشيخ الذي زلق يده على ذقنه واجري مخالعة الطلاق وحرمه أسرته وتذكر القصر العدلي الظالم والازدحام والفوضى به أثناء تثبيت المخالعة تذكر خطابات المسؤولين التي كان يسمعها بالتلفاز تذكر أقسام الشرطة الفاسدة التي عانى منها بسبب نومه مشردا" بالشوارع , تذكر الغرفة السوداء من الخشب واللبن على نهر بردى المليئة برائحة النهر الكرية والبعوض الذي يقلقه بالليل , تذكر وحدته القاتلة , تذكر سقف الغرفة الذي سقط عليه أثناء المطر وهو نائم , تذكر الفندق الجماعي الذي أكل من جسده وعقله وعاش فيه طويلا", فاصفر وجه وصرخ أخ ( الأخ الذي وعدته به أمه ) ونزف الدم من فمه وعض على شفته ليس من الم الجسد بل من الم طفولته البائسة وشبابه وبدأ يفقد نور الحياة في عينيه فالبيت الحلم ينعدم بنظره ويفقده تدريجيا" وهو في سكرات الموت وكان مازال واقفا" على الحائط ويداه مازالتا إلى الأعلى مستسلم لقدره وقام القاتل بعدها بسحب الحربة من بطنه وطعنة مرة أخرى في صدره فارتعش محمد من ردت فعل أعصابه بسبب تقطيع شرايين قلبه المظلوم وهذه الطعنة الثانية تذكر فيها جدته الحنونة ومعلمه الطيب وأبو غياث وشقيقتي اللذان أشعراه انه إنسانا" , فتذكر منهم الدفء والأسرة والحنان . بعدها شد يداه إلى الأعلى أكثر فأكثر مستسلما" لأهل بلده الذين قتلوه ظلما" مرتين مرة وقت الطفولة بتشريده ومرة ثانية بشبابه بذبحه وابتسم وفتح عينيه واخترق بصره السقف والجدران وذهب شعاع بصره ليخترق السماوات السبع فضحك فكأنه شاهد مكانته عند الله لعل الله أبدل بيته البائس الموجود بأرض سورية التي ظلمته بقصر في الجنة , فنفخ محمد روحه الطاهرة وسلم روحه لبارئه العظيم انه الله عزل وجل رب العدل والإحسان فهو احن من كل الوجود ومازال محمد مسنود على الحائط ويرفع يداه مستسلما" للقتل وهو يبتسم بلقاء ربه العظيم , فتفاجأ من قتله من ابتسامة محمد لعله ندم هذا القاتل انه قتله , فقال القاتل لزميله : ( لعما ) لماذا يضحك هذا ؟ عجيب لقد مات ! . ثم كرر كلامه وقال : لماذا ظل هذا يضحك بعد موته ؟ لماذا ظل رافعا" يديه إلى السماء ومسنود على الحائط ؟ ولماذا لم يقع ؟ ولم يصدق القاتل متى يخرج من المنزل خوفا" من القتيل المظلوم , فتركوه على وضعه وذهبوا لغيره ليكملوا ما طلب منهم .
وبعد أن هدأت موجة القتل جاء معلمه ليتفقده بعد ست أيام فالتغطية مقطوعة , ووصل معلمه الباب ومازال مفتوحا" فكان الشهيد الطفل الشاب المتشرد المظلوم محمد بنفس الوضعية واقفا" يضحك ويداه مشدودة للأعلى ومسنود على الجدار ومقتولا" بوحشية فصرخ معلمه بالبكاء وبكت عليه الملائكة وكل الناس , وقام معلمه بجلب الموافقات من الجهات المختصة من اجل دفنه وتم لفه ببطانية كما هو مرفوع اليدان ويضحك ودون أن يغسل لأنه شهيد ليكون بكامل شواهد الجريمة يوم القيامة فتم دفنه في بيته الأخير فهو قبر لمعلمه الذي هو باب دخوله للجنة التي ستعوضه عن عذاب الطفولة وحرمان شبابه .
وداعا" يا دنيا العذاب وداع إنني لم أكن سعيدا" بوطني منذ أن خلقت لم يشفع لي احد لا من رجال الدين ولا أمي ولا أبي ولا أقاربي ولا الدولة ولا الحزب ولا القانون ها أنا عشت وحيدا" وغريبا" أعاني منذ طفولتي وها أنا الآن أموت شابا" مقتولا " ومظلوما" محروما" وغريبا" ووحيدا" في وطني ولم افعل شيء سيئ لأحد في حياتي كلها لا لأهلي ولا لديني ولا لوطني , وداعا" يا سكان الأرض إن بعضكم كان معي من الطيبين منهم جدتي ومعلمي والأسرة التي أعطتني الحنان لن أنساكم أبدا" إن أحياني ربي , وداعا" يا وطني يا شعبي لم يكون معظمكم معي إنسانا", إن أراد الله أراكم في يوم الحساب باي.. باي.. باي .
هذا إنسان عاش بعذاب الطفولة والشباب ومات قتلا" بدون ذنب وهو بريء" لم يفعل شيء يعاقب عليه أبدا" بل أساء له اقرب الناس له ولم يرحمه المجتمع فعاش بالتشرد طفلا" ومات شابا" مقتولا بدون ذنب .
والآن في داخل سورية وخارجها يوجد ألاف الأطفال المشردة بسبب تهديم بيوتهم ولا تعرف هذه الأبرياء الآن أين تذهب وماذا تفعل سيكون لكل منهم قصة مثل قصة محمد أو أقسى ولن تنتهي أثار قصصهم بانتهاء الأزمة السورية وتأمين سكن لهم أو مأوى وإعطائهم ألعاب يلهو بها أو إعطاء لكل منهم مليون دولا ر أو تحرير الجولان أو تحرير فلسطين بل ستطال الحياة بسوريا بكافة نواحيها لميآت السنين لتكون سقوطا" في التخلف الطويل وربحا" عظيما" لإسرائيل , فكثيرا" من الأطفال مات إبائهم وأمهاتهم وكثيرا" منهم مصاب الآن بالعجز الجسدي لا بل بالعجز النفسي , فالتشرد الآن موجود في اغلب لمحافظات سورية وهذا سيؤدي إلى تراجع سوريه حضاريا" ميأت السنين أكثر مما هي عليه سابقا" من تخلف , يا أهل المبادئ الدينية والوطنية الأنانية ألا يكفي سوريا تطورا" وهميا" كاذبا" من عشرات السنين ألا يكفي الظلم والنفاق , ألا يكفي فساد في القضاء الذي دمر البنية الاجتماعية والنفسية للسوريين وبعلم الجميع ألا يكفي فسادا" في أقسام الشرطة وفي دوائر الدولة ألا يكفي تسلط أصحاب النفوذ في كل مكان بسوريا وعلى كل شيء ونهب الدولة والشعب , ألا يكفي نفاق من بعض رجال الدين المنتفعين. والله نعيش في كذبة كبيرة – كله كذب .. كله كذب .. كله كذب
رحمك الله يا محمد يا زهرة دمشق ورحم المظلومين في سورية اللهم أنت متكفل بالأيتام فكن عونا"لهم .
نظرة إبراهيم طاهر