أخلاق التاجر الشامي
ابرز صفات التاجر الشامي الأصيل هي الأمانة . إنها شعاره في الحياة ودستوره الذي يؤمن به . ورأس ماله الذي يعتز ويفاخر به
الأمانة لدى التاجر الشامي الأصيل العريق صفة ملازمة له يؤمن بأنها أساس نجاحه في الحياة وراس ماله الحقيقي الذي يفوق راس ماله المادي
وهو يؤمن إيمانا لا يرقى إليه الشك بان الأمانة تشبه الثوب الأبيض الناصع الذي يرتديه إخواننا في الخليج و اقل لوثة من الوسخ تشوه منظره وتسيء إلى لابسه.
من هذا المنطلق يبع التاجر الشامي ويشتري في كثير من الأحيان بمئات من ألوف الليرات وهو يتحدث على الهاتف أو جالس في سهرة سمر أو ساهر في مقهى يلعب النرد ويقرقر النرجيلة .
في قديم الزمن لم يكن الإيداع في المصارف شائعا بين الناس .
و كان الكثيرون يدفنون ثرواتهم في حفرة بإحدى زوايا البيت أو في جدار أو في أي مكان يقع اختيارهم عليه . كثيرا من الناس كان يقع اختيارهم عند السفر على تاجر يعرفونه فيودعون عنده أموالهم .
دون وصل فيتناول التاجر من المودع المبلغ الذي يملك ويكتفي بكتب اسمه عليه . ثم يقذف به في جوف صندوقه الحديدي إلى حين الطلب
وربما كان من أطرف واغرب ما حدث في هذا المجال
القصة التالية :
أراد احد الراغبين بالحج ذات يوم أن يودع ما ادخره من مال وهو خمسون ليرة ذهب
لدى واحد من كبار التجار ريثما يعود من الحج ...
فذهب إلى سوق البزورية وهو السوق التجاري المشهور في سوق دمشق بقدمه وعراقته وأصالة تجاره ..
ودخل متجرا كبيرا وطلب من صاحبه أن يحفظ له وديعته هذه لحين عودته من الحج
فتناولها التاجر وسجل اسم صاحبها عليها ثم ألقاها في صندوقه
وحين عاد صاحب الوديعة من الحج بعد أداء الفريضة المقدسة
ذهب الى السوق يبحث عن التاجر الذي أودع عنده ماله
ويبدو ان الرجل نسي اسم التاجر وغابت عن ذاكرته الخؤون
صورة وجهه الحقيقي بكل تفاصيلها
ودفعته الصدفة إلى مخزن تاجر مجاور
كان هذا التاجر يجلس في صدر متجره وحوله عدد من زملاء المهنة من التجار ...
سلم صاحبنا بهدوء واخبر التاجر بأنه عاد من الحج وانه يريد أن يسترد الأمانة التي هي خمسون ليرة ذهبية كما أسلفنا ..
نظر التاجر إلى الرجل بشيء من الريبة
ثم نادى ابنه الشاب وأمره بان يدفع إلى الرجل مطلبه ..
وتأمل الشاب إلى وجه الرجل فأنكره !!
ثم نظر إلى أبيه نظرة توحي بان الرجل لم يودع شيئا
لكن الأب كرر أمره بحزم ...
بان يدفع للرجل مطلبه كاملا ..
وامتثل الابن لأمر أبيه على مضض
فتناول الرجل المبلغ وخرج شاكرا..
وسار خطوات وهو يحدق بالمخازن المجاورة
وفجأة سمع صوتا يناديه من خلفه :
- يا أخنا الحاج ...
الحمد لله على السلامة .
ألا تريد أن تسترد الأمانة !؟
عادت إلى الرجل ذاكرته حين تلفت ورأى خلفه التاجر الحقيقي الذي أودع عنده ماله ..
ووثب الرجل الحاج نحو التاجر محييا وشاكرا فقبض وديعته الحقيقية وخرج حائرا مذهولا مما حدث !!
ثم عاد إلى التاجر الأول
خجلا شاكرا معتذرا
ليعيد إليه وديعته المزعومة
كان مجلس الرجل مع رفاق دربه وزملاء مهنته ما يزال معقودا
وهنا سأله احدهم بدهشة واستغراب ..
- كيف دفعت يا أبا فلان إلى الرجل هذا المبلغ الكبير !
وهو لم يودعه عندك !
وأنت لم تره من قبل ؟
وتبسم التاجر بهدوء..
وقال :
- والله يا إخوتي لو أني قلت للرجل أمامكم انه لم يودع عندي شيئا من المال لظننتم بي سوء الظن
وصدقه بعضكم
وكذبني
ولا سيما انه عائد من الحج...
والحاج لا يكذب .
ولو أنكرت وديعته المزعومة لساءت سمعتي بين الناس ووصفت بقلة الأمانة
والتاجر رأس ماله الأمانة قبل المال وقد أثرت بان اشتري سمعتي بخمسين ليرة ذهب أو مهما بلغ المبلغ ....
رواه احد تجار السوق قديما
من كتاب عبقريات من بلادي
للاستاد المرحوم
عبد الغني العطري
....